عذراً، ولكن الحديث سيكون عن رجل لا تعرفونه كما يجب، وبالتأكيد فإن أحداً في مجلس الدفاع العربي أو مجلس الأمن الدولي أو مجالس الحكام العظام المطبقين على الوطن العربي بين محيطه والخليج، لم يسمع باسمه ولم يعرف شيئاً عن حكايته التي تكاد تلخص القضية.
الحديث عن رجل – شعب، تحسبه واحداً فإذا هو مئة، ألف، عشرة الاف، مئة ألف، ربما أكثر، الله أعلم.
اسم الرجل: أبو علي حسين محمد ظاهر حمود، أو أبو حسين علي حمود محمد ضاهر، أو أبو محمد ضاهر محمود علي حسين، أو شيء من هذا القبيل، ولنقرر على أي حال أنه “أبو علي” والسلام.
والحكاية – الحدث التي لم يسمع بها أحد، وربما لم يرد أن يسمع بها أحد من السادة الذين يسمعون كل شيء: إن “أبو علي”، المجهول باقي الهوية، من مواليد قرية القعقعية (أو الخرايب، أو العقبية، أو البرغلية، أو الزرارية، أو كفرصير أو دير قانون النهر الخ…) قد استطاع أن ينتصر على طائرات الـ “أف 15” والـ “أف 16” ومعها البوارج وزوارق الطوربيد والخافرات التي تجرب قدرة قذائفها المدفعية على اختراق اللحم البشري؟!
فعلى امتداد أيام، ظلت الطائرات (والأسلحة المساندة) تدك الجسور وتجعلها أثراً بعد عين، لكن أبو علي حسين كان يتمكن من بناء جسور بديلة، في غمضة عين، بحيث لم تتعطل دورة الحياة في قريته الفقيرة التي يصعب تحديدها فوق خارطة الجنوب المستباح!
قد يبدو الأمر مضحكاً ، للوهلة الأولى، وكأنه نكتة أو دعابة لتبديد الهموم، لكن المشكلة تكمن هنا بالتحديد: فلقد تعودنا أن تقرع الطبول للهزائم، وأن تنظم الأناشيد تحية للنكسات، وارتبط كل شيء في حياتنا (بما في ذلك الخير والشر، الزواج والطلاق، المرض والموت، الفقر والقهر) بسادتنا العظام ذوي الألقاب المفخمة والأسماء الدالة على العراقة، فكيف نصدق أن شيئاً ما قد حدث ونحن لم نسمع خطاباً لأحدهم ولا قرأنا بياناً أو حتى تصريحاً بألوان بالا وسيكام؟!
ومن هو هذا الـ “أبو علي حسين” الذي جاء يحشر نفسه الآن بين “الخالدين” ممن يمارسون صلاحيات الخالق جميعاً باستثناء الخلق؟!
ثم أين هي الطائرات التي أسقطها أبو علي هذا. وبماذا، وكيف ومتى. والبلاغات لم تأت على ذكرها وهي تذكر كل شاردة وواردة وقعت أو ستقع في المسافة الفاصلة بين القطبين؟!
والحكاية، أيها السادة، أبسط بكثير مما تتصورون…
ذلك أن “أبو علي حسين” نفسه لم يعرف بالضبط هذا الذي نحدثكم عنه ولم يتوقف للحظة لكي يفكر في ما ذهبت إليه أفكاركم.
لقد رأى الجسر ينهار، بفعل الغارات والقصف، فاندفع يعيد بناءه بعفويته وسذاجته وإرادة الحياة فيه (وربما أيضاً نتيجة لاميته السياسية التي حرمته من معرفة قوانين العصر الإمبريالي، ولجهله بالأبعاد غير المحدودة التي بلغها التطور التكنولوجي.
لم يكن معه أحد إلا ذلك المجهول مثله “أبو فداء” المولود في مدينة لا يعرفها اسمها عكا.
هكذا ببساطة
ببعض الحصى والتراب المعجون بالدم، بأشلاء بعض من يحب ويعرف من الناس الطيبين البسطاء مثله، بقليل من “الدبش” المتوهج بتلك الحمرة المقدسة، أقام “عبارة”، وأهال فوق العبارة الكثير من التراب المضمخ بعرقه وكد السنين، فإذا السيارات قادرة على استئناف مسيرتها بين الضفتين.
وحين جاءت الطائرات فأغارت ثانية، وهدمت العبارة، وقتلت أبو علي حسين ورفيق صباه أبو عبد الله، وابن أخيه زين العابدين وسكينه زوجة جاره أبو طالب لم يتوقف العمل في إعادة بناء العبارة إلا ريثما انجلى الغبار، ثم عاد كل إلى مهمته: ألقيت الحجارة والدبش في القاع، وفوقها الحصى، وفوق الحصى التراب وشدت الدماء المتجمدة البناء فإذا هو أقوى من الاسمنت المسلح!
وحتى هذه اللحظة، وبرغم الغارات المتكررة والقصف المدفعي المتصل والكمائن وعمليات الإنزال والقنص براً وبحراً وجواً، فإن شرايين الجنوب سليمة، تؤكد حقيقته الأزلية، إنه قطعة من هذه الأرض، من هذا اللبنان، من هذه الدنيا العربية، وسيبقى.
لأنه قرر أنه من هذه الأرض، هو لها ومنها وفيها وهي له ومنه وفيه، استطاع أبو علي حسين الجنوبي أن ينتصر على “أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط”، وعلى “أعظم قوة إمبريالية في التاريخ”. وعلى أعتى الأنظمة العربية التي قدر لنا أن نشهدها في عصر الردة والهزيمة.
لأنه حدد المسألة ببساطة: “أنا أو الإسرائيلي”، وقرر ببساطة: “بل أنا”، انتصر أبو علي حسين، بغير جعجعة وبغير خطب، وبغير بيانات وإعلانات وأغان تحيي الصمود.. صمود الآخرين!
لأنه يعرف أن الأرض اهم من الأمم المتحدة والضمير العالمي ومجلس الأمن والبترول العربي والأنظمة جميعاً، فإذا ذهبت فلن يعيدها أحد منهم.
ولأنه يعرف ويحب النهر والشجر والجسر والبحر والقمر والعتابا والأطفال فلسوف يظل يعيد ربط الضفتين كلما ضربت إسرائيل المعابر..
فالنهر، في خاتمة المطاف، بعض دمه، والجسر بعض لحمه، والأرض هي كل عمره الماضي والحاضر والآتي وضمنه الأبناء والأحفاد.
إنه التراب والحصى والسنابل الحبلى بالخير.
إنه الزيتونة المباركة والجميز والصبير والتين وأشتال التبغ المشبعة نكهتها بعرق الجبين.
إنه الكلمة – القرار، الكلمة – البداية والنهاية: لا!
لا، لن أرحل، لا لن أستسلم، لا، لن أترك أرضي.
سأبقى فيها: فوقها أو في باطنها، لا فرق لكنني ها هنا باق، وإلى الأبد.
وهكذا، أجل، بكلمة ، وببعض الحصى والتراب المعجون بالدم. انتصر أبو علي حسين على الـ “اف 16”
أما نوايا الإمبريالية ومؤامرات الصهيونية وفيليب حبيب والفرق بين بيغن وبيريز وبين إدارة كارتر وإدارة ريغان. فأمور لا يفقه فيها أبو علي حسين، ولا يعنيه كثيراً أن يصبح من المتفقهين في علومها.
المهم الجسر، وقد بقي،
والمهم الجنوب وهو باق، تماماً بقدر ما يبقى فيه وله ومنه ومعه “أبو علي حسين”، المعروف بالجنوبي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان