كل عام وأنتم بخير…
برغم كل ما كان، وكل ما سيكون، نبقى قادرين على أن نتمنى لكم جميعاً، وللون وللأمة، وأساساً لأولئك المضحين بأنفسهم وبرفاه حياتهم من أجل غد أفضل الخير كل الخير.
إن الخير لا يهبط من السماء بالمظلة. إن الخير الخير هو حصيلة ما ننجزه نحن في سعينا من أجل تغيير الواقع المستنقع العفن الذي لا بد سيخنقنا إذا ما ظللنا أسرى وحوله النتئة.
ومع نهاية هذه السنة التي تبدل فيها الناس تبدلاً شبه كامل اخترنا أن نتوقف عند ثلاث محطات، بحثاً عن التماعات الأمل لإضاءة الطريق أمامنا في العام الجديد.
المحطة الأولى:
في 31 كانون الأول 1946 احتفلت دولة لبنان المستقل بجلاء الجيوش الأجنبية جميعاً عن أرضها، وأطلقت حكومتها الشعار – العهد بأن لا يكون لبنان للاستعمار مقراً أو لاستعمار أشقائه العرب ممراً.
اليوم وبعد 37 سنة تزدحم على أرض لبنان وفي مياهه الإقليمية عشرات الجيوش الأجنبية، بعضها جاء بالطلب، وبعضها استقدم لإخراج البعض الأول، وبعض ثالث جاء ليفصل بين البعضين، وبعض رابع وأخيرا جاء منجذباً بالفوضى وبالرغبة في الاستمتاع بالفرجة على تطبيق عملي للمثل اللبناني القائل “محل الضيق يتسع لألف صديق!!”
وفوق الجيوش ومعها اتفاق 17 أيار المشؤوم الذي يسفه ويلغي ذلك الشعار – العهد حول موقف لبنان من الاستعمار مقيماً كان أو عابراً، إذ يعطي الاحتلال الإسرائيلي مشروعية ما، معززة ومؤكدة بالكفالة الأميركية المولدة للأخطار كافة على لبنان كما على سوريا ناهيك بالقضية الفلسطينية أو ما تبقى منها.
لكن إرادة الشعب تظل هي الأقوى: فها هو اتفاق 17 أيار “مجمد” أو “مثل نبتة نائمة” بحسب التعبيرات الرسمية الأميركية، أو هو “غلطة” أفضل طريقة لمعالجتها تكون في تجاوزها واعتبار “الاتفاق” شيئاً من الماضي، بحسب التعبيرات الرسمية اللبنانية.
أما جيش الاحتلال نفسه، وهو الذي كان حتى الأمس صاحب السمعة الأسطورية في كونه “قوة لا تقهر” فها هو يجرجر أذيال الخيبة في جنوبنا العظيم وفي بعض البقاع، وها هو شارون يحاول عبثاً الدفاع عن نفسه والهرب من الوصف الذي يطارده كاللعنة بأنه “حفار قبور” الشباب الإسرائيلي!
فكل عام وأنتم بخير،
والنضال هو الطريق إلى الخير، أما المساومة والصفقات والتشاطر والارتجال والتسرع وما إليها من صفات لتطلق ألواناً من الضرر قم تمس سلامة البلاد وأهلها ولكنها تدمر صاحبها ومعتمدها إذ يكون الضحية الأولى للعودة عنها، وهي عودة حتمية طال الأمد أم قصر.
المحطة الثانية:
وفي 1/1/1965، أطلق فتية من شعب فلسطين الرصاصة الأولى في اتجاه غاصب أرضهم وقاهر إرادتهم والمسقط حقهم في الحياة الكريمة، معلنين تجديد مسيرة الكفاح المسلح لتحرير الأرض وشعبها والأمة جميعاً.
وطالت المسيرة واستطالت وحفلت بالكثير من الصح والغلط، ودفعها الزخم الثوري العظيم إلى آفاق من العزة والمجد لم يكن يحلم بها ذلك اللاجئي الشريد الطريد المضيع حقه في أرضه وهويته،
لكن أخطر الغلط بدأ مع البداية صغيراً ثم أخذ يكبرويكبر حتى صار انحرافاً خطيراً حين تصور أولئك الفتية إنهم البديل لحركة الثورة العربية، ككل، وإنهم يأخذون أكثر كلما أكدوا فلسطينيتهم على حساب انتمائهم القومي وإيمانهم بوحدة معركة الأمة ضد أعدائها الموحدين.
وهكذا كانت الكيانية تلتهم كل يوم شيئاً من الزخم الثوري، وتتسبب في ضياع سرعان ما تفاقم، لأن الكيانية تستسقي الكيانية، فبقدر ما حاول الفلسطيني تأكيد فلسطينيته في الأردن كان يستنفر أردنية الأردني، فيخسر الطرفان من ثم الأرض القومية المشتركة التي تجمعهما، وتكرر الأمر نفسه في لبنان، بصورة أفظع، خصوصاً وإن سرطان الكيانية والإقليمية والقطرية كان قد ذر قرنه بعد تراجع حركة الثورة العربية فالتهم أو كاد كل ما هو مضيء وواعد في المنطقة المنداحة بين المحيط والخليج، وأودى بمصر على يدي السادات، منتهياً بها إلى اتفاقات الخيانة والصلح المنفرد.
ثم جاء “الوسواس الخناس” وبدأ يوسوس في صدور الناس – وبالإنكليزية – مصوراً لهم إن الكياسة في السياسة، أقدر على تحقيق الأماني من العمل الفدائي الذي يعبر عن “تطرف” يرفضه العالم المتحضر، والذي يتسبب في دمغ القائلين به بوصمة “الإرهاب الدولي”.
وكان منطقياً وطبيعياً أن تتلاقى بعض الكيانيات في مواجهة كيانيات أخرى، وأن يتصارع الجميع في الزمان الخطأ وبالشعارات الخطأ وفي الأمكنة الخطأ، مستنفرين أمراض الأمة جميعاً من المذهبية إلى الطائفية إلى العشائرية وسائر ترسبات عصور القهر والتخلف فينا.
وكان منطقياً بالتالي أن يدفع الجميع، اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون والأردنيون من دمائهم ثمن الخطأ، وأن يدفعه سائر العرب من استقرارهم ورفاه حياتهم واطمئنانهم إلى مستقبلهم خصوصاً وإنهم قصروا في إطفاء النار لعل عمى الكيانية والإقليميات النفطية والاعتماد على الصديق الكبير في البيت الأبيض قد جعلهم يقعون في خطيئة التفريط بجزء بوهم حماية الجزء الآخر فانتهى الأمر بخسارة شملت الأجزاء جميعاً.
على إن حركة الجدل والحوار قد استعادت حيويتها أخيراً، مما يبشر بشيء من الخير.
وإذا كان من المؤسف إن التعبيير عن الاختلاف قد تم بقذائف المدفعية والصواريخ، في فترة ما، فإن ما يبقى بعد صمت المدافع إن الأبواب قد انفتحت على مصراعيها لمراجعة شاملة، تتعدى إطار حركة المقاومة الفلسطينية لتشمل كل القوى الوطنية العربية، كل في ساحته.
وبرغم إن الوقت ما زال مبكراً لتقييم مدى الصحة والسلامة في هذه المراجعة فإن ما يجب تسجيله إنها قد بدأت، أخيراً، وإنها بدأت قاسية قساوة الجرح، وإنه من الصعب أن تغلب على الزور والتزوير وبالمناورة والتكتكة ومحاولة استغفال الجماهير.
لقد وصل الناس إلى حافة اليأس والقنوط وهم الآن في طريق العودة إلى الإيمان بأنفسهم وبأنهم هو وهم وحدهم، أصحاب القرار…
فمن تحقق إنه، بالحجارة والعصي ولحمه الحي، وبعض البنادق والقنابل اليدوية، يستطيع مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي…
ومن رأى بأم العين سقوط القيادات أو انحرافها عن الطريق الصحيح، وتحقق بنفسه من أن الجماهير الشعبية قادرة على إنبات المناضلين وحمايتهم وتنوير طريقهم تمهيداً لصياغة برنامجهم الثوري المتناسب مع طبيعة المرحلة.
ومن لمس لمس اليد عجز القوى العظمى، كالولايات المتحدة، عن “تمرير” حلول مشبوهة لمسائل وطنية وقومية ما تزال تجد من يحمل رايتها ويندفع إلى الأمام،
كل ذلك يكشح بعض الغيوم الملبدة في سمائنا والتي كانت تسد علينا الأفق وتجعلنا نفترض إنها النهاية، وإن لا أمل في أي شيء، وإن ليس أمامنا إلا الاستسلام أو الهجرة.
فكل عام وأنتم بخير،
والوعي بالقضية أول الطريق إلى نصرها،
والإيمان بالذات، بالوطن، بالأمة، بالناس هو مصدر القوة وهو ضمانة النصر وصنع الغد الأفضل.
المحطة الثالثة:
ويبقى موضوع ثالث قد يبدو فرعياً، لكن التداعي المنطقي يفترض التعرض له، ففي مثل هذه الأيام قبل سبع سنوات، أصدرت الدولة اللبنانية المرسوم الاشتراعي الرقم واحد لضمان “ضبط” الصحافة في لبنان على خطى أنظمة القمع العربية، كما بررت في حينه،
ولقد خول هذا المرسوم المدير العام للأمن العام من الصلاحيات، وهو في نهاية الأمر موظف، ما يجعله فوق رؤسائه (من حيث التسلسل الإداري)، وما يجعله فوق القضاء (إذ هو يلغيه كمرجع للتظلم وإحقاق الحق)، وما يجعله في كل الحالات قيماً على شؤون الفكر والرأي والكلمة، وبالتالي على الحريات السياسية جميعاً، مما يخالف الدستور الذي كفل للناس حق التعبير من ضمن حرية الفكر والمعتقد.
وليس القصد من الكلام الطعن بشخص هذا المدير أو ذاك، فالأمر يتجاوز الأشخاص ليطرح القضية الأساسية: قضية علاقة لبنان بالحرية،
فالحرية في لبنان ليست ترفاً، وليست منة من حاكم أو سلطان، بل هي شرط وجود فإذا ما غابت افتقد أساس التلاقي بين الناس المتنوعي الأديان والمذاهب والانتماءات الفكرية والمشارب السياسية.
وليس من حاكم يستطتيع أن يحصر بنفسه كل شعبه، ومهما بلغت نسبة المتفقين معه أو الموالين له أو القابلين به أو المنتفعين بوجوده…
ليس من حاكم يستطيع أن يقول: أنا الشعب، ثم يتصرف وكأنه يملك تفويضاً من الرحمن، لا أحد يملك أن ينقضه أو يطعن به أو يلغيه، مهما طال الزمن.
قد يحدث توافق ينتهي بالإجماع في اختيار شخص ما، ضمن لحظة سياسية ما، وعلى أساس برنامج ما، لكن هذا كله قد ينهار إذا اختلفت الظروف أو أخل بشروط العقد أو نسف البرنامج.
فإذا كان الحاكم لا يملك الحق في منع الآخرين من مطالبته بمشاركته السلطة، ولا من الاعتراض عليه، ولا من معارضته، طالما ظل ملتزماً بالنظام البرلماني الديمقراطي إياه، فكيف إذن يجوز لموظف أن يلغي هذه الحقوق الاستنساب أو بالاستئناس أو بالاستناد إلى الفرمان الهمايوني المشار إليه آنفاً.
إن المرسوم الاشتراكي الرقم واحد بطال من أساسه، ولقد طعن في قانونيته منذ اليوم الأول لصدوره، وحتى الحكومة التي أصدرته أعطت لتبريره حيثيات سياسية تتصل بالعلاقة مع الأنظمة العربية، ولم تذكر المعطيات الداخلية إلا في سياق الاعتذار بأن “الآخرين” يذكرونها للتبرير.
أما اليوم فهذا المرسوم لا يستخدم إلا لأسباب سياسية محلية، وبطريقة تسيء إلى الدولة وإلى الصحافة معاً، وبالطبع إلى قضية الحرية، أي قضية الوطن.
لهذا كله لا يجوز السكوت عليه واستمرار العمل به،
ولسوف نطالب ونعمل لإسقاطه، تأكيداً لإيماننا بالديمقراطية وحقنا في ممارستها، ومن داخل تسليمنا بالدولة كمرجع أخير، شرط أن تلتزم الدولة بنظامها ذاته، وليس برغبات الأنظمة الأخرى أو أمزجة المسؤولين،
ولقد دفعت “السفير” وما تزال على استعداد لأن تدفع ثمن إيمانها بالحرية كشرط لتحقق مشروع الوطن.
وكان بين ما دفعنا “العيدية” التي تكرموا بها علينا في الأيام القليلة الماضية.
لكن المرسوم إلى زوال والصحافة باقية كمعلم من معالم الحرية، فإذا استمر التآمر عليها كان ذلك إيذاناً بانتهاء لبنان واندثاره ، وكان على الحكم أن يتحمل المسؤولية ليس فقط عن انتحار الدولة بل أيضاً عن نحر مشروع الوطن،
ولا نظن إن هذا ما يريده الحكم، حقاً، وبرغم الأخطاء في الممارسات وفي المعالجة.
فالديمقراطية أيضاً شرط من شروط استمرار الحكم ذاته، وإلا اعتبر حكماً لفرد واحد أو حزب واحد أو فئة واحدة وكل ذلك مستحيل.
من هنا ما نزال نأمل بانتصار قضية الحريات وسقوط المرسوم الرقم واحد،
فكل عام وأنتم بخير،
ولكن نكون بخير إلا إذا كانت الحرية بخير.. ومن هنا هذا الدفاع الشرس عن قضية الحرية: في الجنوب كما في الضاحية في الجبل كما في بيروت، وفي الصحافة كما في أوساط كل الناس المهتمين بمصير أوطانهم ومستقبل أجيالهم الآتية.
وبرغم كل السواد وكل شحنات اليأس والمرارة والقنوط يظل الإيمان بالذات، بالوطن، بالأمة، بالناس، بسطاء الناس، هو الأقوى، ويظل الخير مأمولاً ومننتظراً،
وكل عام وأنتم بخير،
فإذا عز الخير أمامكم فالتفتوا جنوباً، حيث تتجمع إرهاصات فجر جديد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان