لم يحسم الصراع الماروني – الماروني بإسقاط “التمرد” في 13 تشرين الأول 1990،
لقد انتهت الحرب بالسلاح بين الأطراف الأقوى في هذا الصراع الذي كان يمزق الطائفة، وانتهت بعلاج جاء من خارج الطائفة وإن هو حمل تواقيع بعض رموزها في السلطة معززة بموافقة صريحة أعطاها الطامحون إلى المشاركة في السلطة ولو كثمرة محرمة قد تخرج آكلها من “جنة” الطائفة لتدخله إلى “جحيم” الحكم الملعون!
وبقدر ما وجدت الطائفة نفسها عاجزة عن رفض هذا العلاج الاستثنائي والخارج على التقاليد المرعية ومضطرة إلى تجرع الكأس المرة، فإنها ما لبثت أن بدأت تحاول التحايل على النتائج والحد من التداعيات المنطقية والتملص من دفع الثمن السياسي الذي لا مفر من دفعه في ضوء معطيات اللحظة السياسية الراهنة.
في هذا السياق تندرج جملة من الظواهر التي قد تبدو متناقضة ولكنها في حقيقة الأمر متكاملة في تعبيرها عن استمرار الصراع الذي تعددت الآن جبهاته:
*فهو صراع ماروني – ماروني، وإن بأشكال وصيغ ورموز جديدة، إضافة إلى القديمة،
*وهو صراع مع الشركاء الآخرين (الطوائف الأخرى) في البلاد يمتد من قمة السلطة إلى مستوياتها كافة،
*وهو صراع مع الشريك الأساسي في القرار الحاسم بإسقاط التمرد، أي سوريا، وغن تجنب المواجهة مفضلاً اعتماد سلسلة لا تنتهي من المناورات والتكتكات لاستخلاص ما أمكن من الموقع الممتاز في جمهورية الطائف العتيدة التي أكد الواقع إن لسوريا دوراً بنيوياً في إقامتها فوق الأرض اللبنانية المشلعة!
بين هذه الظواهر التي تستولد العديد من “الأخبار” و”المواقف” و”التصريحات” التي تنتمي في غالبيتها إلى الماضي الذي انقضى:
** تضخيم مسألة المتنين وجعلها قضية، ثم توظيفها لتحسين شروط التفاوض حول الموقع في السلطة باستخدام الحي الشرقي من بيروت (الأشرفية والمرفأ) كرهينة والمطالبة بفدية قد يعطل “البازار” حولها تنفيذ بيروت الكبرى بوصفها المنطلق الفعلي لقيام الدولة بصيغتها السياسية الجديدة.
وإذا كانت مفارقة أن يتلاقى حزب الكتائب مع “القوات اللبنانية” في تكبير مسألة المتنين، فإن العجب يزول بمجرد أن نتذكر إن الاستهداف المباشر هو تحديد “الممثل” السياسي للمناطق الجديدة التي ستعود إلى أحضان الشرعية،
هل هي “القوات” منفردة باعتبارها الأقوى بالسلاح و”على الأرض”، وبالتحالفات مع القوى النافذة البعيدة؟؟
أم هو حزب الكتائب بقوة تاريخه والاحتياج إلى تمثيليته المارونية والجهوية تحديداً، إن في المتنين أو في الحي الشرقي من بيروت؟!
أم هما الطرفان معاً وكشريكين متكافلين متضامنين لا يغني أحدهما عن الآخر ولا يلغي أحدهما الآخر،
وإذا كان “التمرد” قد أخرج الطرفين من المتنين، وإسقاطه قد أحل محلهما قوى كان سبق لهما أن تعاونا على طردها من هناك، فهل سيكون متاحاً لهذه القوى السياسية (من قوميين سوريين إلى محازبين لإيلي حبيقة) أن تدخل مع الشرعية وتحت مظلتها إلى الأشرفية وجوارها؟!!
هل سيعود “المجلس الحربي”، مثلاً، موضع نزاع مع “سيده” السابق الذي خلعه سمير جعجع بقوة السلاح وأيضاً بقوة التواطؤ مع أمين الجميل (وميشال عون) حين كانت له (أو لهما) قوة الشرعيتين المارونيتين: رئاسة الجمهورية (ومعها قيادة الجيش) ورئاسة حزب الكتائب كإرث عائلي لبيت بيار الجميل.
** الحملة المركزة على دور الجيش، وتحديداً على شخص قائد الجيش، والتي كانت مموهة قبل إسقاط “التمرد” بتقاعسه عن أداء هذه المهمة (!!)، وصارت عنيفة جداً بعد إسقاط ميشال عون بحيث تمس “لبنانية” اميل جميل لحود و”مارونيته” وهو ابن أحد أهم “المعاقل” غير الكتائبية في المتن.
قبل 13 تشرين كانت الحملة تقول في اميل لحود:
*إنه متردد، وغير واثق من نفسه لأنه ليس “ميدانياً”، وإنه مناكف يفتعل المشكلات مع “وزيره” والأخطر مع رئيس الجمهورية،
وكانت تصل إلى استنتاجين خطيرين:
1 – إنه طامح إلى رئاسة الجمهورية ومستعجل جداً وهو ذو مصلحة في أن ينكشف ضعف الرئيس الياس الهراوي وعجزه عن الحسم، ولذا فهو “يبطئ” عملية إعادة بناء الجيش وإعداده للعملية العسكرية التي لا بد منها،
2 – إنه غير متعاون مع السوريين، يحاول باستمرار تعجيزهم، وكلما لبوا طلباً له رشقهم بمجموعة جديدة من الطلبات، لأنه لا يريد أن يقاتل ميشال عون، وإنه لهذا يرفع شعار “الجيش لا يقاتل الجيش”!
وبعد 13 تشرين تركزت الحملة على القول:
أ – إن إميل لحود ترك، بسبب من تردده وعدم خبرته الميدانية، بل وعدم توليه القيادة المباشرة للعملية العسكرية، للسوريين أن يقطفوا النصر السياسي بوصولهم قبله إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع،
ب – إن إميل لحود غير منظم و”فردي” جداً ودكتاتوري في قراراته، وهو يحاول أن يبقي الجيش جسماص موازياً للسلطة الشرعية كأنه شريك أو ربما بديل لها وليس أداة تنفيذية… وإن ادعاءه التطهر والبعد عن السياسة والاستنكاف عن مقابلة الزعماء والفعاليات والرؤساء (أحياناً)، كل ذلك تكتيك يهدف إلى استرهان السلطة وإحراجها في تحالفاتها وتعهداتها السياسية.
ج – إن إميل لحود هو غير ظاهره، فليس صحيحاً إنه جديد على لاسوريين وإنه لم يكن يعرف أحداً منهم قبل “خروجه” من إسار ميشال عون، بل عو عريق في تعاونه مع السوريين وتعود علاقته بالكبار والأساسيين منهم إلى يوم كان برتبة ملازم؟!!
** الحملة اليومية على الرئيس الياس الهراوي من زاوية محددة وخبيثة هي الطعن في صحة تمثيله للموارنة وقدرته على حماية حقوقهم التي كانت امتيازات.
وبين وسائل هذه الحملة بعض العدة التي كان يستخدمها ميشال عون ذاته من اتهام الهراوي بأنه “كارمال” سوري، إلى اتهامه بالتنازل عن صلاحياته (التي هي بعض ضمانات الطائفة)، وصولاً إلى التشهير بعجزه عن توكيد ذاته ولو بتعيين مدير عام للأمن العام، وهو المنصب الذي قيل إنه ألح في طلبه على دمشق حتى كاد يحرجها فيخرجها!!
** الحملة العشوائية على الوزراء المسيحيين، في الحكومة، مع تشهير يومي بالموارنة منهم، أو إحراجهم يومياً لاستدراجهم إلى مواقف متطرفة… فادمون رزق متساهل إلى حد التنازل عن كل شيء (!!) وجورج سعادة “بياع حكي” يفعل غير ما يقول، وهو “يلعب” على “القوات” فيزايد عليها لكي يتمكن من حماية نفسه فإذا ما جد الجد اتخذ موقفاً لا نريده، مستفيداً من واقع أن “القوات” لا ترى التوقيت مناسباً لفتح النار عليه بينما هي لم تضمن “مفتاح الجنة” بعد!
أما الياس الخازن فمستثنى دائماً من النقاش، فإذا ما ذكر نفيت عنه الصفة “السياسية” وتم التركيز على ملكاته الشخصية… الطريفة!
إلى ماذا يؤدي هذا كله؟!
*إنه يخلق جواً من الريبة وعدم الثقة بين الجمهور المسيحي، الماروني خاصة، وبين الرموز المسيحية والمارونية أساساً في السلطة… الشرعية.
*وهو ينتقص من “شرعية” الشرعية، مسيحياً، طالما ظلت خارجها الأطراف “القوية” في الشارع المسيحي، وأساساً “القوات اللبنانية” واستطراداً جماعة ميشال عون.
وثمة من يقول، وباعتزاز، إن جنرال العتم ما زال الأقوى وبامتياز، في الشارع الماروني، وإنه حتى وهو لاجئ إلى منزل السفير الفرنسي ما زال “البطل” و”القائد” ومجسد حلم الشباب المسيحي في زعيم تاريخي مفتقد!!
وثمة من هو فصيح في التعبير عن الواقع القائم في الشارع المسيحي إذ يقول:
إن “القوات”، ومثلها الكتائب إلى حد كبير واستطراداً البطريركية والزعامات التقليدية الأخرى، هي قيادات بلا تيار، بلا قاعدة،
وإن ميشال عون – الآن – هو تيار عريض بلا رأس لأن “بطله” أسير حرب… في منزل السفير الا بمار تقلا!!
*وهو يهز صورة الحكم ككل مستخدماً الهنات الهينات لبعض الحكومة وبعض الرئاسة، وهي قد تكون بمجملها صحيحة، ولكن توظيفها هنا يخدم غرضاً سياسياً غير البحث عن طهارة الحكام وقدرة الحكم على الإنجاز : إنه يحاول تعطيل قيام الدولة، جمهورية الطائف أو “الجمهورية الثانية” كما يحلو للبعض أن يسميها.
*وهو يؤدي أخيراً إلى إرباك أو عرقلة قيام بيروت الكبرى بوصفها نواة الدولة العتيدة.
ومن أسف أن أداء الحكم يساعد في تحقيق هذا الغرض الخبيث،
فليس منطقياً ولا معقولاً ولا مقبولاً أن تكون الأداة العسكرية والأمنية للبلاد قيد المفاوضة بل “المناتشة” الطائفية والمذهبية في حين إن قيامتها كأداة قادرة وفعالة شرط لتمظهر الدولة معافاة وقوية وحازمة بين إسقاط التمرد”.
وبيروت الكبرى إنجاز أغلى من أن يضيع في دهاليز المساومات على التعيينات والتشكيلات المعطلة منذ فترة طويلة في انتظار “البازار” المهين الذي لا ينتهي بين الأوصياء على الجمهورية الجديدة من خلال ادعائهم حصر تمثيل طوائفهم في أشخاصهم الكريمة وفي من يرشحون من أزلامهم والأتباع.
والدولة أغلى من الطوائف عموماً، ومن صراعاتها على وجه الخصوص… ثم إنها ضرورة لهذه الطوائف لا وجود لها من دونها ولا “دور” لها خارجها،
فمتى إذن تتوقف هذه اللعبة المؤذية؟!
متى يسدل الستار على لاعبي الدرجة الثالثة لنصدق إن لبنان الجديد على وشك أن يطل على الدنيا؟!
ودائماً عبر بيروت وليس إلا عبرها؟
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان