لم تعد المناشدات والتوجهات العاطفية والخلقية تنفع كأسلوب في التعاطي مع مسألة التفجرات الأمنية المتتالية والمتفاقمة في المناطق غير الخاضعة للهيمنة الكتائبية بنتائجها المدمرة على مسيرة العمل الوطني والقومي في لبنان.
لقد تجاوز الأمر حدود الجريمة وبلغ فعلياً حدود الخطأ الاستراتيجي القاتل، وهو خطأ تدفع وستدفع ثمنه – معنوياً – القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وقوات الردع العربية أي الجمهورية العربية السورية، في حين تدفع الثمن – مادياً ومن دمها – الجماهير الشعبية، في بيروت وسائر المناطق اللبنانية، وكل ذلك يأكل من رصيد القضية الوطنية والقومية بحيث يكاد يذهب به وبها.
فمن “الضاحية” إلى طرابلس، مروراً بالجنوب فبعلبك، فبيروت الغربية، ثم طرابلس – الجنوب – الضاحية – بيروت – بيروت وبالعكس، تتكامل الحلقة الجهنمية للعنف غير المبرر وغير المقنع الذي يلتهم، بوتيرة متسارعة، ما تبقى من إيمان بالقضية ومن الاستعداد النفسي للصمود أمام المشروع الإسرائيلي (ويمكن إضافة الكتائبي – الأميركي – السعودي الخ).
لكأنما ثمة قرار أصدرته جهة ما باجتثاث آخر وطني وقومي وتقدمي في لبنان، عبر سلسلة من الفتن الصغيرة القابلة دائماً لأن تتعالى ألسنة نيرانها حتى تحرق كل شيء مقدس وكل الناس الطيبين الذين واجهوا بصدورهم أعداء الحلم بلبنان – الوطن، وأعداء فلسطين – القضية والثورة، وأعداء سوريا بما للعلاقة معها من توكيد حسي لانتماء لبنان العربي والتزامه بدوره الطبيعي في خدمة قضايا أمته التي تتحمل – بدورها – مسؤولياتها حياله كاملة.
لكأنما ثمة قرار همايوني ما بأن يصير الناس كتائبيين، بالقوة، قوة الخطأ الذي بات ملازماً بصورة شبه دائمة لممارسات رافعي الرايات والشعارات العزيزة على قلوب الناس.
لكأنما ثمة قرار همايوني ما بأن يدفع الناس دفعاً إلى المطالبة بكامب ديفيد والصلح مع إسرائيل، وليس فقط إلى التسليم بنتائج “مبادرة السادات” ومسيرة سلامه الأميركي – الصهيوني.
لماذا تحدث هذه التفجرات؟! ولماذا تتكرر في مواعيد محددة بدقة حتى ليمكن أحياناً الحدس بها وإعداد روزنامة للأيام وللأسابيع أو الشهور الساخنة؟! وطالما يجمع الكل على إدانتها وتأكيد وعيهم بمخاطرها فلماذا لا يمنع وقوعها أصلاً بألغاء المسببات أو بمحاسبة المتسببين، ولو مرة، وهذا أضعف الإيمان؟!
ثم لماذا هذا المستوى في العنف، وهو مستوى بلا سقف؟!
ومتى يصبح بإمكان الناس (ولنغض الطرف عن حقهم!!) أن يفهموا لماذا تنشب هذه المعارك بين رفاق الصف الواحد، ورفاق الخندق الواحد، ورفاق السلاح الخ؟!
لماذا يتحول الخلاف “الشخصي” إلى قتال عشائري همجي تجيش له القوى وتنصب المدافع الثقيلة فتقصف المنازل والمساجد والمياتم والمارة والأطفال والنساء، إضافة إلى الرجال الساعين وراء قوت عيالهم؟!
لماذا تقول البيانات وتصريحات لقاءات المصارحة فالمصالحة بين القادة شيئاً، وتقول “القواعد” والتعاميم الداخلية والنشرات السرية شيئاً آخر؟!
… ومن المؤكد أنها تقول شيئاً آخر لأن تعبئة كالتي شهدناها حيثما دارت اشتباكات العشائر الحزبية المسلحة تدل على عمق جذور المشكلة وبقائها طويلاً من دون علاج، وتراكم أسباب الخلاف، وتفضح تصور القيادات في علاجها لمسائل الخلاف واستهانتها – من ثم – بأرواح الناس.
وقد يكون مهماً – للتاريخ وللناس – أن يعرفوا من هو البادئ بافتعال المشاكل وإيصالها إلى مستوى الحروب الصغيرة في المناطق التي لا أثر (ظاهراً ، على الأقل) للكتائب وسعد حداد وإسرائيل فيها.
لكن الأهم – للتاريخ وللناس – ألا تحدث مثل هذه الاشتباكات ، وإلا تنشب هذه الحروب الصغيرة والمؤذية أكثر بكثير من “الحروب الكبيرة” التي تحملوها على امتداد السنوات الست الماضية عن طيب خاطر لارتباطها بقضايا يقدسونها ويفتدونها بأرواحهم والدم.
فمتى تتحمل القيادات الوطنية والقومية مسؤولياتها وتمارسها فعلاً وعلى الأرض وبالحزم الذي ينقذ ما تبقى من الوطن والمواطنين وقضاياهم المقدسة؟!
هذا هو السؤال الحقيقي – وهذا هو جوهر المسألة، أما حكاية “العناصر غير المنضبطة” و”التجاوزات الفردية” والخلافات الشخصية “فليست إلا غطاء لعجز هذه القيادات أو لما هو أخطر وأفظع
وصحيح إن العددية في الصف الوطني ميزة ودليل صحة وعافية وتوكيد لأصالة الروح الديمقراطية لكن هذه الحروب الصغيرة تطرح على الناس مفاضلة من نوع آخر مؤداها: اختاروا بين الحياة في ظل الفاشية وحكم الحزب الواحد، أو الموت في ظل الفوضى والتسيب والخوات باسم الديمقراطية والوطنية والقومية.
ومن حق الناس أن تختار، أولاً الحياة لا الموت، ثم يأتي التفكير بالإطار السياسي، والمضمون وسلامة الخط الخ!!
ولا نظن إن من حق أي تنظيم أو منظمة أن تخير الناس بين قيادتها ومعها الموت، أو الحياة ولو مرة خارج إطار قيادتها الفذة.
ولن ترحل الجماهير، ولن تمشي إلى الموت المجاني والعبثي والسخيف مطاطئة الرأس مستسلمة لقدرها البائس.
كذلك فهي لن تنفض ولن تتخلى عن قضاياها ولن تستسلم للعدو “نكاية” بهذه القيادات،
ولكنها بالتأكيد ستقول رأيها الصريح والعلني بهذه القيادات، وستقوله بأي وسيلة متاحة لإعلان الرأي والموقف.
وليس إسقاط القيادة العاجزة أو التافهة بالضرورة نصراً لبشير الجميل، بل ربما كان العكس هو الصحيح، وهو المطلوب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان