نشرت في جريدة “السفير” ضمن “هوامش” بتاريخ 15 آذار 2002
قصدت مع موسى طيبا وأربعين عاما من الصداقة الصعبة مع الاطفال المبدعين من الفنانين التشكيليين المعرض الجديد لحسين ماضي.
كانت اللوحات الجميلة التي ابدعتها ريشة هذا الرسام المتميز تنضح بعشقه المكين للنحت، وهو الفن الذي انصرف عنه كارها لأنه لم يستطع ان يتفرغ له بكليته وان يعيش منه ليعيش له.
لم يكن في القاعة الانيقة، في ساعة القيلولة تلك، غير حشد من الرؤى والاخيلة والاحلام وقد كساها حسين ماضي ألوانها وسكبها في الاشكال التي اختارها لها فكدنا نسمع رفيف الطيور التي يرافقها وترافقه، يتعلم منها ويضيف اليها حتى تصير عالما ممتعا من المشاكسة والتحرر من القيود، والموسيقى الصاخبة بعشق الحياة…
أما نساء حسين ماضي فكن يتمددن في اوضاع الغواية والتلذذ داخل مكعباته التي يتزاوج على حدود بياضها الهادئ، البني مع الاخضر ولثمات من الاحمر فإذا »الرجل« يتراءى في الظلال التي ولدتها الشهوة المعبرة عن اجيال من الحرمان.
لا تعرف ما اذا كانت العصافير قد ولدت الحروف، ام ان الحركة هي التي ولدت الاشكال المعبرة عن التمازج الابدي بين الموسيقى والفلسفة والهندسة، والذي ينتظر المبدع لينتقل من حيز المشهد البصري الى الامتاع الحسي، مع انفتاح باب التخيل على مداه امام البهجة التي تحسها كدبيب النمل على اطراف مشاعرك.
اجتهد موسى طيبا الذي لا يعرف ان يكره، ولا يتقن المزاحمة ولا يفهم للحسد وللغيرة معنى، لأنه يؤمن بأن لكل فنان اسلوبه وبأن المدى مفتوح امام المبدعين جميعا، في »شرح« لوحات زميل دراسته ورفيق صباه حسين ماضي: كانت متعتي فائقة وانا استمع الى شرح »ناقد« موضوعي، تجعله ثقته بنفسه و»بأصالة« اختلافه في التعبير يكشف لك بعض اسرار الجمال التي يصطنعها هذا المزج العبقري بين المشاعر حين تعبر عنها الالوان، وعن الاشكال حين تستولد موسيقاها المنشية.
درت بين اللوحات اتملى في اعمال حسين ماضي الجديدة صورته الاصلية: هذا الطفل الخشن الطباع، الصعب مزاجه والذي احب ان ينطق الصخر لأنه تعلم القراءة في صفحة جبل الشيخ التي انبتت بلدته المنسية شبعا (نعرف الآن عن مزارعها المحتلة اكثر مما نعرف عن اهلها الذين لم يغادروها حتى وهي تشتعل بنار العدو او تكاد تتجمد تحت ثلوج الاهمال الرسمي الذي اسقطها من ذاكرة الوطن… وما يزال).
لسبب لا استطيع شرحه احسست ان شبعا التي كافح حسين ماضي للدخول اليها طويلا، بعدما استعصى عليه ان يخرج منها او تخرج منه، موجودة على سن ريشته سواء وهي ترسم »نساءه« البضات، في قلب الشبق، او تستكتب حركة الطير سيمفونية الحياة في لوحات تتراص فيها الاضواء والظلال مصطنعة متعة تكاد تكون محسوسة.
لم انظر في قائمة الأسعار لأحفظ نشوتي في صدري، فلا حسين ماضي هو البياع ولا انا الشاري، وانما هي زيارة الى مبدع رافقت تطوره وهو يحتال على مواصلة طريقه نحو ذروة العطاء باللجوء الى اشكال من الانتاج التي لم تكن لتنسجم دائما لا مع طبيعته ولا مع قدراته.. منها، مثلاً، انه رسم الكاريكاتور، كاريكاتوريا، ليشتري قماشا وألونا للوحاته وخبزاً وكعكاً بزعتر!