جاءهم رجل من أقصى المدينة، من المقلب الآخر من المجتمع. قتلوه. لم يكن منهم. لم يقبلوه كي يكون بينهم. هم قتلة وسارقون ونهابون وطائفيون ومذهبيون. هم أرادوا بلداً ينتج من أجلهم. أرادوا بلداً ينهبونه. أرادوا البلد كما يريد صاحب الشاة أن تسمن فيغتني بلحمها وسمنها وحليبها.
رحمتنا المحكمة الدولية. حصرت الجريمة بشخص واحد، فكأنها تقول هي طبقة بكاملها التي قتلته. جنبتنا المحكمة صراعات لا شأن لنا بها. فوق ما نحن عليه من بلايا. قالت إبحثوا في السياسة؟ هي التي قتلته. في السياسة، بمعنى الصراع على السلطة. تتناحر ميليشيات وإثنيات ومذاهب وطوائف وهويات سبيلها الحقد. لم يكن الحقد سبيل قلبه. الدولة هي المبتدأ والخبر عنده. كان وما يزال الحقد كل شيء عندهم. سياستهم الحقد والكره واقتصاص الغنيمة، واحتصاص الطائفة، وإفقار الناس. أنتجتهم الحرب الأهلية. هو أنتج اتفاق الطائف. كانت عينه على الإعمار وإعادة النهوض. بقيت أعينهم على الحرب الأهلية وعلى المنهبة التي زامنتها. طبقة سياسية تشكلت من خصومه وممن كانوا حوله. حاولوا تدجينه كي يصير واحداً منهم. لم يستطع ذلك. بقي غريباً، كصالح في قومه. لم يستطيعوا إبعاده، فلجأوا إلى العقوبة القصوى: القتل.
كان عربياً عروبياً بكل وجوده، وحدوياً لم ير الوحدة إلا من خلال بناء الدولة في لبنان. والدولة بالنسبة إليه هي القانون والعمل والإنجاز. قال مرة للمُكلف بالإعمار: أريد إعادة بناء المدينة الرياضية. قيل له هناك أولويات أهم. قال إقترب. وشوش في أذنه: ما هو أول مبنى قصفته اسرائيل في اجتياح العام 1982؟ الجواب كان المدينة الرياضية. قال: هل فهمت؟ أريد التصاميم خلال شهر. كان له ذلك. كان كلامه عن الإعمار كالموسيقى، تشنّف الآذان. هبط مرة من جلسة مجلس الوزراء، قائلاً وهو يتمايل فرحاً: قررنا لكم مشروع ترميم ألف مدرسة رسمية. الشرط أن ينتهي العمل خلال سنة، كي نحيل لكم ألف مدرسة أخرى. كان له ذلك.
أفشى مرة سراً رهيباً. قال أنا أيضاً أتفرج على برنامج طربي لأم كلثوم لكن بعد منتصف الليل. سُئل لماذا؟ قال كي لا يراني أحد وأنا أبكي عندما أراها مع جمال عبد الناصر وهي تغني له.
آمن بالدولة اللبنانية وأبدية كيانها. قيل له الأبدية لله وحده، تجهم وجهه وكأن القائل لا يفهم. أجاب نعم. ليس لنا إلا الدولة. وجودنا مرهون بها، بالعيش فيها، بالعيش سوية فيها. وكان مسلماً من النوع التقليدي. يصوم شهر رمضان بكامله ولا يأبه إذا كان أهل البيت لا يصومون. الدين بالنسبة له هو ما ينبع من القلب، لا من الطقوس ومما حولك. الإيمان أساس الدين لا الطقوس. الإيمان في القلب. في جوانية النفس ولا ضرورة أن يظهر ذلك على الملأ.
كان من خارج السياق العربي. رئيس وزراء فعلي. لا يوجد في قطر عربي واحد رئيس وزراء فعاليته أكثر من موظف. كان غريباً أيضاُ في المنظومة العربية؛ يفهمها دون شقاق معها، ودون نفاق لها. فهم أن العروبة لا تتأكّد إلا ببناء الدولة القطرية. أن تكون لبنانياً حقيقيا هي عروبتك. مفهوم جديد للعروبة؟ فليكن. الحياة تطوّر وتقدم. لا تقدم إلا بالإنجاز حيث أنت. إسرائيل عدو. مقاومتها تكون بالتقدم والنهوض الاقتصادي والاجتماعي.
رموه بتهمة بناء الحجر قبل البشر. تجاهلوا أن الانسان هو الحيوان الوحيد الذي عندما يولد لا يترك للطبيعة. يوضع في الحجر (المهد) أولاً. تجاهلوا أيضاً أنه بدأ بمؤسسة الحريري للتعليم العالي (الحصيلة أكثر من 30 ألف خريج) قبل توليه السلطة ومباشرته الإعمار. وكان مفرطاً في أن لا تكون له منة على أحد. قيل فليكن للطلاب رابطة. رفض.
كان عنيداً حتى النهاية في ما يعتبره أساسياً (يقال مبدئياً). عندما كثر النعيق من حوله، خاصة من المحاسبين، دعا إلى إجتماع موسع في الرياض. سأل كم طالباً أصبح لدى المؤسسة؟ قيل عشرة آلاف ومئة. قال عدد أولادي سبعة. الآن أصبح عندي عشرة آلاف ومئة وسبعة أولاد. كلهم أبنائي. ورفع صوته بالدعوة الى الغداء منهياً الإجتماع القصير.
كان مُشبعاً بالروح العملية؛ يعرف أنه يخطئ ويصيب، وأنه ينجح ويفشل. تجريبي حتى النخاع. يرفضون له مشروعاً في مجلس الوزراء فيأتي إليهم بعشرة مشاريع أخرى. كان يجيد المناورة. يفهم السياسة. يعرف أنها تراكم تسويات، وأن الواقع ليس وجهة نظر، وأن الرأي الصحيح هو ما يتم تعديله حسب الوقائع، وأن الوقائع تُكتشَف تدريجياً.
أخطاؤه كثيرة. قيل له مرة وهو في الطائرة يتقلب على كنبة ولا يستطيع النوم: أنت لا تنام ولا تدع غيرك ينام. كان الجواب: وهل نستطيع العيش دون قضية؟
خلط المال بالسياسة؟ نعم. لكن باتجاه معاكس. بذل المال في سبيل السياسة في زمن صارت السياسة لجني المال. ثروته جاءت من خارج لبنان.
عصام عساف
أغسطس 21, 2020إذاً قررتم عدم نشر تعليقي الذي ارسلته منذ ساعات عديدة ! تعليق صريح لكن ضمن الاصول. لا تظهرون إلاّ ما يوافقكم الرأي ويرعى حشيشكم ! موقف جبان من حسناته أنه يكشف لي من انتم ! عيب عليكم !
شريف
أغسطس 21, 2020إسرائيل تعودت على خلق الفتنة بين العرب؛ والعرب عودوها على سداجة البعض منهم، وغباوة البعض الآخر.
ليس هناك شك ان إسرائيل كانت وراء اغتيال ريق الحريري.
وليس من المستبعد انها وراء جريمة مرفأ بيروت.
وفي كيلتا العمليتين سارعت الدول الغربية في المطالبة بتحقيق دولي، متأكدين ان الذين لهم القرار متصهيين !
والمقصود من هذا هو طمس الحقيقة وتبريئة إسرائيل وشركائها الأمريكان وغيرهم من الأنظمة المتصهينة، من الغربيين اومن العرب.
هذه هي السياسة الصهيونية التي ترتكز على خلق البلبلة بين العرب، وكذالك بين المسلمين، حتى يتقاتلون يما بينهم، وهم الرابحون.
مادام العرب يعبدون الأمريكان، لن يعرفوا السلم و السعاة في حياتهم. وحالهم الحالي دليل قاطع على ذلك. العيب ليس في العدو نفسه، لكن في الذين خانوا شعوبهم.
عصام عساف
أغسطس 21, 2020لأول مرّة يسقط في يدي وأنا أقرأك ! لأول مرّة مقالة لك تقريظ دون توقّف ! مشروع سوليدير وحده يعرّيه ويُدينه الى أبد الآبدين ! ثم انت شخصياً ما الذي أبعدك نهائياً عنه وقد كنت من المقرّبين ؟!؟…لن أقرأك بعد الآن.