ليست مبالغة أن لبناناً جديداً يولد أمام عيون العالم أجمع، ووسط تقدير المحب وإعجاب المحايد ودهشة المخاصم، عبر الصمود الوطني الرائع الذي تجلى في حماية الإنجاز البطولي الذي حققته المقاومة، بمجاهديها الميامين شهداء وجرحى ومقاتلين يواصلون أداء مهمتهم المقدسة في مجابهة “الحرب الإسرائيلية” ومنع العدو من إحراز “نصر ميداني ما” يحمي به حكومته ولو بلحم جنوده؟!
وليست مبالغة أن يُقال إن المشهد الإسرائيلي يكاد يكون أقرب إلى ما عرفناه حتى ألفناه من مشاهد الخلافات والاختلافات الفضائحية في مواجهة الهزائم التي مُنيت بها قيادات ودول عربية، على امتداد دهر الصراع المفتوح مع المشروع الإسرائيلي.
النصر يجمع ويصلِّب الإرادة ويعزز الوحدة، والفشل (وهو التعبير المخفف للهزيمة) يفضح فيفرق ويتبادل الأطراف الاتهامات حتى بالخيانة العظمى وكل طرف يتهم الآخر بالمسؤولية عما كان وعما لم يكن مما كان واجباً أن يكون.
إن “الفيلم” الذي نتابع وقائعه الآن عبر الوقائع التي تصل إلينا (وإلى العالم كله) عن الخلافات المحتدمة داخل الحكومة الإسرائيلية وداخل الجيش الإسرائيلي ثم بين الحكومة (أو بعضها) وبين الجيش (أو بعض قادته) قد سبق لنا أن شاهدنا مثله مراراً “بأبطال” عرب، مدنيين وعسكريين، وتجرّعنا المهانة طويلاً ووقائعه تنهش من حقنا في الحياة وحق أبنائنا في مستقبل يليق بقدراتنا وطاقتنا الفعلية.
وليست مبالغة القول إن الصمود الوطني العام قد استولد لنا رجال دولة، يذكرهم العالم بالاسم، كنبيه بري وفؤاد السنيورة، إضافة إلى أن القادة السياسيين بمجموعهم ـ خارج الحكومة وداخلها ـ تبدّوا في صورة أرقى مما عرفناه من مباذلهم وانشقاقاتهم وصراعاتهم الشخصية، ولو موّهت ذاتها بلبوس أو شعارات المسائل المصيرية.
إن النصر يدفعك أن ترتفع إلى مستواه، والهزيمة تجرك إلى تحت، إلى الحضيض.
ولأن النصر السياسي في المواجهة التي كانت تعتبر في حكم الاستحالة لا يحتاج إلى البلاغة والتهدج في الخطابة، فإن السيد حسن نصر الله ـ الذي بات الآن ـ الزعيم ـ العربي الذي لا ينافسه في قلوب الناس أحد ـ كان رصيناً في “رسالته” أمس، كما كان منصفاً ومعترفاً بالفضل لكل من أسهم في تعزيز الصمود، وبالتالي في حماية القدرة على تحقيق هذا الإنجاز الوطني الممتاز.
وبين دلائل النصر السياسي هذه القراءة الموحّدة لقرار مجلس الأمن الرقم 1701، الذي أجمعت كل الأطراف والقوى السياسية أنه أقل مما يستحق لبنان وأكثر مما يجوز أن يعطى لإسرائيل، ومع ذلك فقد اكتفى أصحاب الملاحظات ـ وهم كثر وهي عديدة ـ بتسجيل تحفظاتهم تاركين لإسرائيل أن تحاول التملص من موجباته بتكثيف هجماتها وقد زجت فيها نخبة النخبة من جيشها الذي فقد وهجه ولن يستطيع أن يستعيده مهما بلغت وحشيته في القتل والتدمير واغتيال النور.
إن لبنان الموحّد خلف صموده منتصر،
وإسرائيل المختلفة قياداتها المدنية والعسكرية إلى حد الاشتباك والتنابز بالألقاب تبدو في صورة المهزوم، بغض النظر عن أسباب قوتها الهائلة، براً وجواً وبحراً، قبل أن نتذكّر المئتي رأس نووي التي تمتلكها.
الوحدة الوطنية سر النصر: بها يكون ومن دونها لا مجال لتفادي الهزيمة.
ولبنان الموحّد خلف النموذج الفذ الذي قدمه لأمته في الصمود في المواجهة، وفي فضح الأسطورة الإسرائيلية التي كانت تبدو نموذجية في توحدها خلف نزعتها للهيمنة والتوسع ولو باعتماد الأساليب الهمجية، هو هو القدوة .
وحماية هذه “القدوة” واجب وطني وعربي أيضاً.
ونتمنى ألا تخاف القيادات العربية من هذه القدوة فتعمل على إجهاضها أو منع اكتمال إشعاعها، خوفاً على وجودها، لأنها من الهزيمة وُلدت وبالهزيمة تعيش.
نشرت في “السفير” 13 آب 2006