مع كل دفعة جديدة من التعيينات في المواقع الإدارية العليا ينفتح باب الجدل مجددا حول دور السياسة في إفساد الإدارة، وغالبا ما يكون بين عناوينه الشائعة »المحاصصة« والذي يقترب في معناه الفعلي من »تقاسم الغنائم« والأسلاب، أيام الغزو بين القبائل.. في الجاهلية!
ما هي معايير التعيين؟!
نظرياً: هي الكفاءة والخبرة والشهادات والاختصاص الخ…
عملياً: هي غير ذلك تماما، بل هي في العديد من الحالات على النقيض تماما، وتتوقف على تزكية هذا الرئيس لمرشح معين أو تبني رئيس آخر لمرشح ثان وهكذا دواليك حتى تقع معجزة »التوافق« ويقنع كلٌ بغنيمته التي تعكس حصته من السلطة وتؤكد موقعه الممتاز كمرجع أوحد أو أكبر لطائفته وامتلاكه حق الفيتو ضد مَن لا يرضى عنه.
مع الأيام، قنع كل »رئيس« بحصته في طائفته، ولم يعد يتطلع إلى المشاركة في اختيار المرشحين للتعيين من الطوائف الأخرى، وإن كان قد احتفظ لنفسه بدور الصوت المرجح للمرشحين من أبناء طوائف الدرجة الثانية والثالثة!
ولأن الكفاءة لا تلتقي مع الطائفية، ولا تستطيع مواجهتها فكيف بالانتصار عليها، يدخل إلى الإدارة المزيد من المعينين بقوة أصحاب النوافذ من ممثلي طوائفهم، بينما يمنع من الاقتراب من نعيمها مَن لا سلاح بيده إلا شهادته وسنوات خبرته والتزكية التي نالها من سابق خدمته في القطاع الخاص، أو التي يؤكدها سجل خدماته في الإدارة الرسمية.
ولأن »الإصلاح الإداري« بات موسميا، يطل مع كل عهد جديد، وأحيانا مع كل حكومة جديدة، فقد فَقدَ بريقه ولم يعد يستثير حتى الفضول، فضلاً عن الاهتمام.
.. فإن ضحايا الإصلاح الإداري، الذين أُخرجوا من الإدارة »تأديبياً« فوضعوا في المستودع الكبير الذي يحمل تسمية »بالتصرف«، غالبا ما أعيد إليهم الاعتبار، فأعيدوا إلى الإدارة الجديدة أو المجدَّدة بالإصلاح موفوري الكرامة وموفوري الدخل، إذ يصبح منطقيا تعويضهم عن فترة »الاضطهاد« برغم أنهم كانوا خلالها يقبضون مرتباتهم وتعويضاتهم وبدل التمثيل والبدلات الشرعية الأخرى كاملة غير منقوصة،
ولأن أهل التفتيش المركزي وديوان المحاسبة والمجلس التأديبي العام وسائر المعنيين بإعداد تقارير دورية عن الموظفين وإنتاجيتهم ومخالفاتهم وخروجهم عن القانون، يعرفون ان ما يكتبونه لن يبقى سرياً، كما انه لن يُعتمد بالضرورة، في قرارات الصرف أو التأديب أو المكافأة، وإنما قد يحاسبون هم عليه أشد الحساب..
ثم لأنهم يعرفون ان المعيار في الحكم على هؤلاء سيتأثر باللون الطائفي أو المذهبي، وبالتالي فإن الأمر سينتهي عند »المرجعيات« التي لا جدال في انها أقوى وأعتى نفوذاً من هيئات الرقابة بأشكالها كافة،
ولأن مجلس الخدمة المدنية قد هُمش وعُطِّل دوره فلم يعد هو وامتحاناته ومبارياته وتقييماته للموظفين المرجع الأساسي للحكم لهم أو عليهم، سواء بالترقية أو بالمكافأة أو بالتأديب، وتم تحويله الى مجرد مستودع »للفائض« من الموظفين الذين وقعت عليهم القرعة بالمصادفة القدرية،
ولأن لكل رئيس دولته ورجاله،
لهذا كله »تطير« الكفاءات الى الخارج فتعمل ولو في غير مجال اختصاصها بينما تحشى الإدارة بمن يحاول تعويض النقص في كفاءته بقوة المرجعية التي تدعمه وتسترهنه بحاجته إليها في التعيين ثم في الترقية إضافة الى اختيار المنصب الأدسم…
ثم إن النظرة الرسمية الى الإدارة تختلف بين عهد وعهد وبين حكومة وأخرى، فيرفع تارة شعار: أبناء الإدارة هم الأولى بالترقية لاحتلال مرتبة الفئة الأولى، ويرفع طوراً الشعار الضد: كل الإدارة فاسدة ومترهلة وغير منتجة ولا بد من ادخال دم جديد إليها في المواقع القيادية لكي نضمن انتظام دورة الانتاج ورفع معدل الانتاجية وتلبية احتياجات الناس…
إن في »مستودع التصرف« عددا من كبار الموظفين الذين كانوا على امتداد سنوات في »مواقع حاكمة«.. وحتى اليوم لم يعرف الناس: هل كان أولئك مقصرين أو سيئين، مرتشين أو مفسدين… كما أنهم لم يعرفوا هم درجة العقوبة التي يستحقونها، وقد يعودون غدا على أحصنة بيضاء، اللهم إلا إذا كان القصد »تفريغهم« لأعمالهم الخاصة على حساب الدولة.
… وما دامت الأحاديث الخاصة والعامة تشير الآن الى صفاء العلاقات بين الرؤساء (وحلفائهم) فلنأمل أن يبت في أمر هؤلاء الذين يدفع المواطن كلفتهم من دون أن تفيد منهم الإدارة، اللهم إلا إذا كان القصد أن يصيروا مثلا أعلى للموظفين، فيتقاضوا مرتباتهم من دون عمل، وتأتيهم الدرجات والعلاوات وهم في منازلهم أو في شركاتهم أو يسعون وراء مصالحهم الخاصة.
ثم فلنأمل، لمرة، أن يعاد الاعتبار إلى »المؤسسات« المعنية بتقييم الموظفين، والتي يفترض أن تعتمد معايير ثابتة وموضوعية في اقتراح ترقيتهم أو »تأديبهم«، لكي يصح حديثنا عن »المؤسسات«، ومن ثم عن »دولة المؤسسات«.
إن هذا التشهير المتواصل بالموظفين، وهذا التجاوز المتكرر لأبناء الإدارة، مع التزكية التي ترفع خفيضا وتخفض صاحب موقع رفيع لأسباب تتصل بولاءاته خارج الإدارة، كل ذلك لا يبقي إدارة ولا مؤسسات ولا دولة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان