تحكم العرب منظومة من دول الاستبداد. جاء في قرار وزراء خارجيتهم حول استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية أن في الأمر حفاظا على عروبة سوريا، وكأن العروبة ملكهم أو ملك أي نظام داخل الجامعة العربية أو خارجها.
هم ليسوا حماة العروبة ولا التعبير عنها، لا يوم علّقوا عضوية سوريا ولا عند استعادتها، ولا في أي يوم آخر. العروبة ملك شعبها أو شعوبها. واستخدام صيغة المفرد أو الجمع هنا تعود إلى الهوية السياسية لمن يكتب أو يقرأ حول الموضوع. العروبة هي الناس في انتمائهم إليها. هي ديموقراطية لا تتمتّع بها هذه الأنظمة، دون استثناء بما في ذلك سوريا.
العروبة انتماء يُعبّر عن وجود وليست فكرة. الفكرة تروح وتعود، تُخطئ وتصيب، تزدهر وتخبو. الانتماء هو أن يكون المرء متحداً مع ذاته؛ أن لا يكون منسلخاً عن ذاته كما فعلت أنظمة الاستبداد التي تلهثون وراء أقفية حكامها، وتخضعون لهم أنتم، أقصد وزراء هؤلاء الحكام. تعملون لدى الاستبداد لإخضاع المجتمعات العربية لأسيادكم. العروبة هي الثورة والدولة. الثورة دعت إلى إسقاط النظام في كل المنطقة العربية؛ في وقت واحد جاء هتاف ثورة 2011. لم يكن ذلك صدفة. وشاهدنا الداخلين في أمر الثورة المضادة، أولياء أمر الأنظمة، وما تتشكّل منه الأنظمة العربية الحاكمة من انفصاليين، فصلوا أنفسهم عن شعوبهم، ومارسوا العنف والقهر لإخضاع الناس وسلخهم عن أنفسهم. نجحوا هذه المرة في كل قطر عربي. لكن الثورة سوف تتكرر. ويكفي أن تنجح مرة واحدة حتى تمتلئ مزبلة التاريخ بهم.
الاستبداد سلخ المرء عن ذاته. جعله يعيش من أجل غيره، مطابقاً لغير ذاته، خاضعاً لغير ما يُمليه ضميره. الاستبداد يُنافي الأخلاق.. هو إلغاء للسياسة لأنه يطمس الجهر، ويفرض على المرء نفساً مغلقة، ويفصل بين المرء وأخيه بمنعهما من التواصل. والتواصل الحقيقي لا يحدث إلا في العلانية، أي في مجتمع مفتوح. ليس هو حرية إبداء الرأي وحسب، بل الحق في أن يكون للإنسان رأي ويعلنه على الملأ. الاستبداد يمنع حرية الرأي. يُميت النفس التي تفكّر. يُحوّلنا إلى زومبي، أحياء أموات.
العروبة هي أن نوجد ويكون وجودنا أساساً لكل قضايانا. وأن تكون قضايانا مكرسة للناس. يعمل أصحابها (أصحاب القضايا) في سبيل الناس ومن أجلها. العروبة أن نكون في ذاتنا ومن أجل ذاتنا، وأن تكون ذاتنا في ضميرنا. وأن تكون المنطلق والنهاية. والله لم يخلقها إلا لكي تكون كذلك. أما أنتم سادة الاستبداد، فقد خالفتم مشيئة الله في سعيكم لأن يكون المرء غير ذاته، ومن أجل آخر يتناقض مع ذاته، خاضعاً لمستبد ارتكب الخطيئة الأبدية عندما حاول أن يكون خالقاً آخر. الاستبداد يقول أنتم خلقتم من أجلي، ومن أجل أن تخضعوا لي. “وما خلقناكم إلا لتخضعوا”.
العروبة تعددية. ليست هوية واحدة، بل هويات في ذات واحدة. المشترك في هذه الهويات هو اللغة. ليس مهماً الأصل بل الانتماء. يُمكنكَ أن تكون كردياً عربياً، أو أمازيغياً عربياً. هذا على الصعيد الإثني، أما على الصعيد الديني، فيُمكنك أن تكون مسلماً عربياً أو مسيحياً عربياً أو يهودياً عربياً. لا هم إن تعددت الدول. المهم أن يكون لكل قطر دولة، لا مجرد نظام. في الدولة، ينغرز الوعي بها في الضمير الإنساني. ينتظم الناس في إطارها. لا تفرض نفسها بالقسر بل تكون الإطار الناظم للمجتمع. شرط لما عداها. ولا شرط عليها. النظام أجهزة بيروقراطية، برلمانية، قضائية، وعسكرية، الخ… الدولة غير النظام. دعا الناس في ثورة 2011، من المحيط الهندي الى المحيط الأطلسي، لإسقاط النظام، لا إسقاط الدولة. قالوا “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولم يقولوا الشعب يريد إسقاط الدولة. الوحدة العربية سعي لأن نكون ذاتنا مطابقين لأنفسنا. ولا همّ إن تعددت الدول أو توحدت في نظام واحد. لكن الوحدة السياسية لن تكون إلا إرادة مشتركة. إرادة تنبع من الذات وإليها، وتكمن فيها، وتنطلق منها. الوحدة هي المطلق الذي تنتهي إليه الحرية إذا شاءت.
ليس هامشياً أن تكون اللغة منطق العرب من المحيط إلى المحيط. تتعدّد الأديان والإثنيات عند العرب، كذلك اللهجات، لكن اللغة واحدة. فطرة هي. يُقال الدين فطرة لكن الأديان تتعدد في مجتمع واحد؛ لا تتعدد اللغة في مجتمع واحد. تتعدد اللغات الثانية واللهجات كلغة ثانية. لكن العربية لغة واحدة. ليس ذلك في الفصحى وحسب، على مشاكلها، بل العاميات اشتقاقات من الفصحى. هي على كل حال تقترب منها بفضل التواصل، حيث كان الاستبداد انفصالاً، ومنه انطلق. الاستبداد انفصال واللغة وحدة. مهما علا شأن الانفصال إلا أنه يبقى، حاضراً وماضياً ومستقبلاً، خاضعاً لوحدة اللغة التي تملي نفسها ولا تفرضها. ليس الاستبداد من شأن اللغة بل نقيضاً لها. الاستبداد وضع كاذب مستعار. اللغة العربية صدق نابع من الانتماء من فطرة أن يكون المرء بذاته وفي ذاته ولذاته. الانتماء أن يكون هو هو، كما يجب أن يكون لا كما يفرضه نظام أو حاكم هو بمثابة المخلص الدجّال.
يا أرباب الاستبداد، فقدتم الشرعية منذ زمن طويل، منذ أن انفصلتم عن المجتمع. ليس غير المجتمع مصدر الشرعية. استعنتم بالخارج على شعوبكم، فعادت الامبريالية على أيديكم، وصرتم بما في ذلك أنظمة “التحرر الوطني” استمراراً للاستعمار، وعلى تعامل معه ضد شعوبكم. فعلتم ذلك مرة أخرى عندما خضتم الثورة المضادة ضد شعوبكم التي خاضت ثورة 2011 لاسقاطكم.
كان حليفكم الطبيعي في الداخل هو الدين السياسي، لأنه هو أيضاً يسلخ الإنسان عن ذاته، ويتناقض مع الإيمان. فالإيمان اتصال مباشر مع الله، والدين السياسي وسيط بين الإنسان وخالقه. لم يكن صراعكم معه إلا صراعاً على السلطة ومحْقاً للدولة، أو بالحري حؤولاً دون قيامها غير مشروطة إلا بإرادة شعبها، وفي سعيها للتطابق مع العروبة.
مآلات العروبة مسار يتجدد بتجدد الحياة، لا عند العرب وحسب، بل في العالم أيضاً. العروبة خروج الى العالم وانخراط فيه. لا خوف من غزو ثقافي. والثقافة عالمية على كل حال ولم تعد محلية. إذ يموت المحلي تدريجياً بفضل العلم والتكنولوجيا. تمانعون ضد الغزو الثقافي ولم تمانعوا ضد الغزو العسكري والسياسي. وفي أرجاء الوطن العربي مئات القواعد العسكرية، بدعوة منكم لحمايتكم من شعوبكم. أما التبعية السياسية فهي أوضح من شمس النهار في تموز. والغزو الثقافي هو أمر ترحب به شعوبكم، ليس لأنه حاصلٌ فعلاً، بل لأنها تريد استيعاب العلم والعالمية التي حرمتم شعوبكم منها. ضربتم حول شعوبكم أسواراً من الجهل والأجهزة الأمنية والرقابة البيروقراطية، وجعلتم كل فرد جاسوساً على أخيه. فانسحبت الذات إلى داخلها، إلى الضمير الذي لا يمكنكم الوصول إليه. لذلك تحالفتم مع الدين السياسي على توحيد المظاهر، وركزتم جهودكم على الطقوس لقتل التنوّع والوحدوية. أردتم الناس متشابهين في الخضوع لكم ولسادتكم، لتحل عبادة الطاغية مكان الضمير، وما يستتبع ذلك من أن يكون المرء منسجماً مع ذاته. عبادة الله فيها حرية، أما عبادتكم ففيها ذل الخضوع والاستسلام للطغاة. تحالفتم مع الدين السياسي عندما أردتم، وأراد، المطابقة بين الثقافة والدين. في الدين العميق، أي دين الناس، إيمان وعلاقة مباشرة بين الإنسان والله. إيمان لا يقبل التعددية. أما الثقافة فهي تعددية بطبيعتها. أراد الاستبداد ناساً متشابهين، فقضى على التعددية. والعروبة هي في هذه التعددية التي أنكرتموها.
لم تعد سوريا الى العروبة لأنها لم تخرج منها. عاد النظام الى أحضانكم، الى حيث يليق بأنظمة الاستبداد. سنعيد ونكرر أن العروبة هي الناس، والأنظمة الراهنة جميعها، هي نقيض العروبة. هي أنظمة طغاة يفرضون أنفسهم على الناس.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق