وصلتنا الديموقراطية في البقاع محمولة على »محدلة«،
وبرغم أن الشوق إلى »المحدلة« لا يقل، بل لعله يزيد عن الشوق إلى الديموقراطية، فلقد كان البقاعيون يتمنون لو أن طرقهم كانت حسنة التعبيد، ومتسعة بالقدر الكافي لتصل الديموقراطية من غير وسيط، ومن غير »محدلة« تتولى شق الطريق أمامها إلى… قلوب الناس!
ولأنها التجربة الانتخابية الأولى على مستوى الدائرة المحافظة فإن البقاعيين عموماً يحارون كيف يمارسونها في غياب أي عمود فقري ناظم لحياتهم السياسية، أو حتى لتواصلهم الاجتماعي في هذه المنطقة الشاسعة والمرمية في جب الإهمال والنسيان والبؤس والمعزول أهلها عن أهلها وعن الشأن العام.
فجأة تقاطرت السيارات الفارهة مواكبة بالرانجات واللاندات والجيبات إلى مختلف الأنحاء، وتزاحمت بل وتلاطمت في ساحات القرى الصغيرة: في بوداي أو في شعث أو في يونين أو في تربل أو في عين كفرزبد، أو في عيتنيت، أو في عين عطا، أو في تمنين، أو في حوش النبي أو حوش تل صفية، أو في اليمونة، ناهيك بأودية الهرمل وجرودها، و»القلم الشرقي«، أو عند بيت مشيك، كما في الدار الواسعة، أو في برقة وبتدعي.
من غير موعد كان على هذا الفلاح الكاسدة مواسمه أن يستقبل مرشحين آتين من أمكنة بعيدة لا يعرف عنهم شيئاً، أو أنه يعرف أقل مما يجب، فيتم التعارف الذي لا يمكن أن يشكل حافزاً للمناصرة أو الدعوة للآتي طالباً صوته.
اللقاء الأول لا يتيح المجال إلا للكلام في العموميات: الصحة، المواسم، كمية الأمطار، أسعار البطاطا، ضمان العنب، أحوال المداجن وأمراض الفروج وسعر صندوق البيض، وربما الشمندر.
الدخول في الأرقام يأتي بالكمد والحسرة، إذن فليتركز الحديث على القضايا السياسية الكبرى حيث لا مجال للاختلاف: العلاقة العضوية مع سوريا، شرف المقاومة وضرورة حمايتها، تسفيه مشروع »لبنان أولاً« واستمطار اللعنات على تطرّف بنيامين نتنياهو..
في بيوت غلاة الشيعة لا بأس من شيء من الاستشهادات بكلمات للإمام علي بن أبي طالب، مع انعطافة في اتجاه الوحدة الوطنية، وفي بيوت المؤمنين من المسيحيين يستحسن تلاوة ما تجود به الذاكرة من »سورة مريم«، وتسفيه التعصب والذين دمّروا البلاد وأيقظوا الفتنة طلباً للزعامة.
الضجر يسيطر على الجو، والكلمات تتثاقل وهي تلامس آذاناً عافت مثل هذه الأسطوانات التي لا تدل لا على هوية المتحدث ولا على تقبّل السامع.
لزحلة والفرزل ونيحا وقاع الريم »لغة«، ولقب الياس وجب جنين غيرها، لبر الياس ومجدل عنجر لغة ثالثة، لمشغرة وقرى المواجهة لبايا وزلايا وقلايا لغة رابعة، ولصغبين قاموس مختارة عباراته بعناية حتى لا يساء تفسيرها في الجوار،
لعنجر تراجمة محلفون »يوصلون« المعنى إلى مَن لا يفهم الألفاظ،
في عرسال يقال ما لا يجوز إعلانه لا في القاع ولا في رأس بعلبك، أما في الهرمل فيمكن إطلاق الكلام على سجيته،
أما في بعلبك فلكل حي من أحيائها نبرة وإيماءات خاصة، والمهارب قائمة كالأعمدة: مدينة الشمس التي لا تحظى بالعناية المتناسبة مع قيمتها التاريخية، غياب المرافق السياحية (والسياح)، التأخر الفاضح في تنفيذ أبسط المشروعات كتوسيع الطريق الرئيسي فيها، إعدام الأشجار العريقة،
اللغة هي هي، سواء أكان المرشح ائتلافياً أم خارج الائتلاف أم مخرجاً منه.
الإيماءات والإيحاءات كثيرة سواء في تبرير الائتلاف أم في تسفيهه أم في التذمر من عملية الانتقاء التي استبعدت هذا وقرّبت ذاك،
في »العواصم« التي منها وزراء وكبراء يتخذ الكلام منحى مختلفاً: في حوش الأمراء وزحلة وغزة وجب جنين وعلي النهري، يدخل »النفاق« المقدمة والسياق ويوفر الخاتمة.
لكنهم بعد الزيارة يذهبون، ويبقى كل شيء على حاله: المجاملة قد ترضي الغرور الشخصي لكنها لا تعوّض خسارة الموسم الماضي ولا تضمن تحسين الدخل في المستقبل.
ستظل أقساط المدرسة فاتورة ثقيلة ينوء بحملها رب العائلة العديد أطفالها، وستظل كلفة الطبابة والاستشفاء هاجساً مطلقاً، وسيظل هذا »الناخب الكريم« يدفع للصهريج ليأتيه بمياه الشفة من البعيد، وسيظل يدفع تأميناً للساعة وفاتورة عالية لتيار كهربائي غيابه يعادل حضوره..
ليس للمرشحين، بمن فيهم الوزراء والكبراء علاقة بمثل هذه الهموم الصغيرة. إنهم مأخوذون بالهموم الوطنية الكبرى كالوفاق والعيش المشترك والعملية السلمية ومواجهة النظام العالمي الجديد!
* * *
ليس للبقاع »عاصمة« أو »مركز واحد«. هو جهات، الآن، وأشتات. الطرقات الدولية خطوط طول وخطوط عرض تقسم المنطقة مناطق. والحساسيات المذهبية والطائفية تخوم وأسلاك مكهربة تعزل الفلاحين والفقراء بعضهم عن البعض الآخر.
خرج البقاعيون من الحرب التي لم يدخلوها إلا جزئياً وعلى »التخوم« إياها، لكن ركام الحرب ما زال يشتت جمعهم.
خسرت زحلة موقعها الممتاز. لم تعد هي المركز الاقتصادي للبقاع. صار المركز على طريق الشام بين شتورة والمصنع. أما السياسة فترف لا يتمكّن من ممارسته هؤلاء الفلاحون المفلسون… صار لكل جهة »مركزها«، وباتت الطرقات الرئيسية هي البديل العصري عن أسواق الأربعاء والخميس والجمعة، وهي تغني عن المراكز، خصوصاً وأن الناس الذين تباعدوا أكثر مما يجب خلال الحرب يفضلون الآن التلاقي خارج المدن… وفي الهواء الطلق!
بعيد هو البقاع، لا سيما دواخله… لم تصل الأحزاب إلى هذه المنافي إلا في مناسبات تاريخية عابرة. ومَن وصل من الحزبيين، موفداً من المركز في بيروت، سرعان ما استرده المركز ومَن نجح في استقطابه من المناصرين. لا تليق قرى الفقراء بالمناضلين الحزبيين من أجل التغيير!
* * *
غاب الانتخاب طويلاً حتى كاد ينسى الناس كيف يمارسونه.
منذ ربع قرن لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع… ومنذ ثلاثة وثلاثين عاماً لم يسمح لهم بأن يكتشفوا أنفسهم والكفاءات ولو على المستوى المحلي (المدينة، البلدة، القرية، المزرعة). والانتقال العنيف يحدث هزة: من لا انتخاب بالمطلق، ولو على مستوى المجالس البلدية والهيئات الاختيارية إلى انتخابات نيابية على مستوى المحافظة (المقطعة أوصالها) لاختيار ثلاثة وعشرين نائباً من سبع طوائف، تتوزع فوق مساحة تشكل أربعين في المئة من »كل لبنان«!
من موات للحياة السياسية، وانسحاق للأحزاب والنقابات والمنظمات الشعبية، وانعدام الفرص المشاركة فيها من أي موقع، إلى مطالبة المواطن و»تكليفه« بأن يتولى مصيره بيديه..
من غياب مطلق للدولة بمجالسها الفخمة ألقابها ورواتب »قياداتها«، وصناديقها المذهّبة التي لا تكاد تفرغ حتى تملأ من جديد، ومشروعات الإعمار الباهرة: مدناً بأنفاق، ومطارات بمدارج بحرية، وجسوراً معلقة، إلى حضور ثقيل لأصحاب الدولة وأصحاب المعالي (من دون الدولة) يجوسون في مجاهل »بلاد بعلبك« و»جرود الهرمل« ووعر اليمونة، ويتسلقون شعاب دير الأحمر وعيناتا، أو يمخرون »سهل زحلة«، أو تقودهم الطريق إلى قرى البقاع الغربي التي »تتفرّج« على »سد الليطاني« من دون أن تفيد كثيراً منه في مياه الشفة أو الري أو حتى الكهرباء…
على أي قاعدة يكون الاختيار؟
ما الفرق بين هذا أو ذاك من طابور المرشحين الذين لا تكفي ألقابهم الرسمية أو العلمية أو نسبهم العائلي لتقديم حقيقتهم إلى الجمهور؟!
في غياب السياسة يضعف فعل الاختيار، ويصبح للاقتراع معيار بحت شخصي.
من هنا كانت الحاجة إلى أن تصل الديموقراطية إلى البقاع محمولة على »محدلة«،
وعسى أن تتسع الطرقات البائسة في البقاع للمحدلة ومعها الديموقراطية، فلا يضطر سائق المحدلة إلى تخفيف الحمولة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان