كثير ما يكتب ويقال عن اليوم التالي لتنفيذ اتفاق دولي يقضي بوقف القتال والقتل الجماعي في ربوع غزة. يتحدثون عن تحالف متعدد الجنسيات يتولى مسئولية إدارة شئون القطاع. يشترك في تنفيذ إرادة هذا التحالف إداريون وعسكريون من دول عربية مجاورة سوف يتعاونون مع ممثلي دولة الاحتلال، بينما تردد في اقتراحات أخرى أن السلطة الفلسطينية المقيمة الآن في رام الله، أو بعد إعادة هيكلتها بأمر من المجتمع الدولي، سوف يكال إليها هذا الدور. يشترط المحتلون والأمريكيون إغفال وجود حركة حماس بحرمانها من تولي أي مناصب سياسية في القطاع، وهو الحرمان المعمول به الآن في رام الله.
***
تعددت في الاقتراحات الإشارة إلى حل الدولتين. لم يقرن بأي اقتراح منها خريطة للدولة الفلسطينية أو خريطة نهائية ترسم حدودا للدولة الأخرى. أضافوا شرطا حصل على إجماع الدول المهتمة بحل الدولتين ألا وهو شرط “دولة فلسطينية منزوعة السلاح”. أفهم أن تشترط إسرائيل هذا الشرط، وأن تشترطه أمريكا وربما بعض الدول الحليفة. ما لم أفهمه هو أن تقبل به السلطة الفلسطينية قيدا على سيادة الدولة. كيف يرضى القائمون عليها أن يحكموا دولة بلا سيادة ولا حدود، دولة أراضيها تؤكل كل يوم قرية بعد أخرى وشعبها إن لم يهاجر فمصيره القتل.
***
كان مطروحا بشكل من الأشكال عودة مصر لتولي مسئولية إدارة القطاع، ويتردد بخبث أن الرفض المصري لهذا الطرح ربما يلين لو أن الجماعة الدولية المهيمنة على القروض والاستثمارات الخارجية ربطت بين سينا وغزة بمشروعات إعمار عديدة واستثمارات وفيرة. مصر رغم أزمتها، وحسب ما أعلم، ما تزال رافضة أي اقتراح يجر في أذياله أنواعا من هجرة الفلسطينيين. ولكنها تدرك أن هذه الاقتراحات، ضمن جهود وضغوط كثيرة، لن تتوقف.
***
لن أغير من يقيني أن ما قام به شبان حماس من عمل عسكري منظم ضد إسرائيليين ومهاجرين يهود قرروا استيطان هذا الحيز من غلاف غزة إنما هو عمل سبق أن وقع مثله في عديد جبهات الاحتلال الأجنبي لأرض استباحها لنفسه. وقع في الصين والهند ومصر والسودان والولايات المتحدة وفي جنوب أفريقيا وأيرلندا الشمالية وأمريكا ضد بريطانيا العظمى، وقع في مصر وبلاد الشام ضد قوات السلطة العثمانية وفي الجزائر والمغرب ودول أفريقية عديدة ضد الفرنسيين وغيرهم من المستعمرين الأوروبيين. لا جديد فيما قام به شبان فلسطينيون لتحرير بلادهم، لم يكونوا أول من انطلق مهاجما المستعمر أو المستوطن ولن يكونوا آخرهم.
***
هذا المستعمر مع المستوطن يمارسان ظلما رهيبا في الضفة الغربية على امتداد سنوات. أقيم الجدار العازل وانتشرت المستوطنات مع طرقها الخاصة وقوات دفاعها. فرضت غاراتها المستمرة على قرى الفلاحين الفلسطينيين. لا يتوقف الإسرائيليون عن الحديث عن أحلامهم الكبرى في دولة يهودية على أرض شاسعة تتمدد في كل الاتجاهات.
***
بتطور غير ملموس هيمنت على الحكم في إسرائيل عناصر وتيارات يمينية متطرفة. راحت على امتداد التاريخ المعاصر تستخدم الدين والتاريخ القديم جدا والأساطير لإرهاب شعوب وحكام العالم، والعرب اليوم في صدارة هذه الشعوب. هي ولاشك عقدة حكام كثيرين. كيف تحل وقد امتزجت أطماع الصهاينة بمصالح القوة الدولية الأعظم، بريطانيا العظمى ثم الولايات المتحدة، حتى احتار عباقرة السياسة في فهم عناصر هذا المزيج وفي كيفية صنعه.
***
من يستخدم من؟ أمريكا تستخدم الصهيونية العالمية، تستخدمها جهازا متميزا للتجسس على الآخرين من داخلهم، أم تستخدم قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي الذي أثمرته هذه القوة، أم يكفيها أن تستمر الدولة الصهيونية مغروسة في قلب الشرق الأوسط تثير عدم الاستقرار وتؤلب الدول والجماعات على بعضها البعض؟ أمريكا تستخدم الصهيونية أم الصهيونية تستخدم أمريكا لتحقيق أهداف تاريخية ودينية وأسطورية لا تعلن لعامة الناس وحكامهم؟
***
أبدع كل منهما في استخدام الآخر. كلاهما أبدع في استخدام العداء للسامية لإخضاع شعب أو آخر. تحقق استسلام اليابان كاملا بقنبلة هيروشيما وإلى يومنا هذا تسير في ركاب الصهيونية والإرادة الامريكية في كل ما يتعلق بحماية إسرائيل والتغاضي عن تجاوزاتها الأخلاقية والسياسية. وفي ألمانيا تحققت الإرادة الأمريكية والإرادة الصهيونية في تمازج كامل فضمنت الحماية لإسرائيل وتجاوزاتها وعمليات الإبادة التي تمارسها والتغاضي المخجل للمبالغة في تسيير سياسة ألمانيا وفق توجهات إن لم تكن توجيهات إسرائيل. واقع الأمر كما يبدو لمراقب خارجي أن أمريكا والصهيونية تمكنتا من إجبار أو إقناع ألمانيا بهذا السلوك مستخدمتين سردية العداء للسامية قنبلة تعادل أو تتفوق على قنبلة هيروشيما في اليابان. مفعول تهمة العداء للسامية بالتأكيد أقوى وأبقى من قنبلة نووية. دليلنا على صحة ما نذهب إليه ويذهب إليه معنا الرأي السائد في معظم بلاد الشرق الأوسط هو الموقف الألماني على امتداد الشهور الماضية من حرب الإبادة الدائرة في فلسطين، موقف غريب وغير مبرر أخلاقيا.
***
عشنا سنوات ونعيش ضغوطا وحروبا وعقوبات ووعودا هدفها فرض التطبيع على دول العالم العربي. نعيشها في ظل محاولة صارخة لإبادة شعب فلسطين أو تهجير قطاع منه. ونعيشها كابوسا منذ قامت إسرائيل بقصف بعثة دبلوماسية لإيران في دمشق متسببة في قتل شخصيات إيرانية رفيعة المستوى وفي الوقت نفسه أعادت إلى صدارة المشهد قضية العلاقات العربية الإسرائيلية.
***
عشنا ليلة وصفتها بأنها كانت مثيرة. كان واضحا أن خلافا شكليا وقع في العلاقة بين قمة القيادة السياسية في واشنطون وقمة القيادة السياسية في إسرائيل. أقول القمة لأن الخلاف لم يمس أسس الامتزاج الصهيوني الأمريكي. تصادف أن كلا من الرئيس بايدن ورئيس الحكومة نتنياهو يمر بأزمة سياسية تمس شخصه ومستقبله السياسي. أقول أيضا أن الأزمتين تناقضتا في الخيارات المتاحة أمام كل منهما. حانت الفرصة عندما تجاوز نتنياهو الخطوط الحمر في العلاقة مع الحليف الأمريكي فأمر أجهزته الهجوم عسكريا على بعثة إيران الدبلوماسية في دمشق دون استشارة واشنطون التي تحتفظ في سوريا بقاعدة عسكرية وتحافظ من خلالها على حساسية وضع استراتيجي شديد الحرج في الشرق الأوسط ومع إيران بخاصة.
***
لم تفاجئنا التسريبات الصادرة من واشنطون تعليقا على تجاوز نتنياهو قواعد التحالف، أو قل الامتزاج الصهيوني الأمريكي. كانت أهم التسريبات من وجهة نظرنا ما تعلق بالشكوك الجديدة الطارئة على العقل السياسي الأمريكي ومنها أن إسرائيل، تحت قيادة معينة، يمكن أن تعرض أمن القواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط للخطر. شكوك من هذا النوع تؤثر في المعتقد السائد تاريخيا وهو أن إسرائيل بوجودها تحمي مصالح أمريكا ومنها قواعدها العسكرية ومصالحها النفطية وتحالفاتها التقليدية بدول الخليج وخطط تطبيع أوسع. من ناحية ثانية تأكد لقيادات في الحزب الديموقراطي والبيت الأبيض أن تصرفات نتنياهو ضد المدنيين الفلسطينيين أثرت على اتجاهات تصويتية بين جماهير الحزب مما صار يهدد فرص بايدن في الفوز، وهو الأمر الجلل في سنة انتخابية. من ناحية ثالثة تسرب أن قيادات الحرب لمست قلقا متزايدا بين قادة دول الخليج ودول عربية أخرى نتيجة المواقف الإسرائيلية التي وصفت بالرعناء والاستهانة بمصالح حلفاء أمريكا في المنطقة.
***
في النهاية تسرب، بتعمد حسب رأيي، أن اتصالات غير مباشرة جرت بين واشنطون وطهران أقرت بحق إيران في الانتقام للغارة الإسرائيلية على السفارة في دمشق بشرط أن يكون معتدلا، وأن أمريكا سوف تلجأ فور إتمام الغارة إلى تعبئة القوى السياسية لحلفاء أمريكا وإطلاق حملة إعلامية تشد من أزر الحليف الإسرائيلي أملا في تطويعه ومنعه من الاستمرار في سياسات هدفها التورط والتوريط والاستهتار بمصالح أمريكا وحلفائها في الشرق الأوسط.
***
وقع الانتقام الإيراني. كان في الشكل كثيفا وفي الواقع ناعما وفي آثاره مثيرا. عشرات المسيرات ومئات الصواريخ في موجات متلاحقة نحو لا أهداف محددة باستثناء وحيد هو مطار مهم تضررت بعض ممراته ومخازنه وربما أشياء أخرى أخفاها الجيش الإسرائيلي في بياناته المتضاربة. الأهم أن لا ضحايا مدنية، إنجاز هائل في حرب في الشرق الأوسط. إنجاز أكدته الولايات المتحدة حتى قبل أن تعلنه إيران أو تشكك فيه إسرائيل. مهم أيضا السرعة التي خرجت بها أمريكا لتحصل مع بريطانيا وفرنسا على الفضل في “إحباط الهجوم الإيراني” قبل أن تعود وتعلن انتصار إسرائيل وتشن حملة إعلامية داخلية تجمع بين إعلان الفضل لأمريكا والثناء على كفاءة جيش إسرائيل. كنت شاهدا مرات غير قليلة على مثل هذا التضارب في الإعلام الرسمي الأمريكي ولكن ولا مرة واحدة بمثل هذا التخبط.
***
هذا عن شكل الهجمة الإيرانية على إسرائيل وواقع تنفيذها، أما الآثار المباشرة وغير المباشرة فكثيرة وبعضها كاشف، منها على سبيل المثال: (1) استعاد بايدن مؤقتا هيمنة أمريكا على تصرفات حكومة إسرائيل. ففي الشكل وأمام شعبه أنقذ إسرائيل وسوف يطلب الثمن من نتنياهو. (2) أوقفت أمريكا، ولو مؤقتا، مسلسل هزائم إسرائيل في حربها ضد غزة. (3) بعد أن سمحت أمريكا لإيران بحرب محدودة تكشف فيها عن ضخامة ترسانتها من الصواريخ والمسيرات تستطيع الآن أن تستأنف وبسرعة المفاوضات لاستكمال تنفيذ مشروع الحلف الإبراهيمي ضد إيران والمقاومة الفلسطينية توطئة لإقامة جامعة الدول الإبراهيمية. (4) لمدة غير قصيرة أتوقع أن تتراجع بين يهود العالم مكانة إسرائيل كملاذ آمن لهم. (5) ولمدة أيضا غير قصيرة أتوقع أن يستمر الأمن العربي القومي مهددا وكذلك الاستقرار الداخلي في دول عربية أكثر على نمط ما حدث في أعقاب النكبة الأولى أو على نمط مختلف. (6) كسب بايدن، كمرشح للرئاسة الأمريكية، نقاطا جديدة وإن محدودة في المنافسة مع دونالد ترامب. (7) يبقى مؤكدا أكثر من أي وقت مضى أن أمريكا مسئولة كليا عن جميع تهورات إسرائيل.
***
الأزمة ممتدة ولا حل حقيقيا أو عاجلا عند الأفق، فالأطراف، كلهم أو أغلبهم، مأزومون أو ضعفاء والوشائج بينهم، كلها أو أغلبها، هالكة أو متهالكة، ومن أمامنا الغرب بزعاماته وحضارته في انحدار ومن ورائنا الشرق الناهض ما يزال بعيدا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق