إذاً فالأزمة أخطر من أن يحلها الإجماع غير المبرّر، منطقياً وسياسياً، على شخص المزكى لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية العتيدة.. بل ان تعقيداتها تعطل وقد تمنع الولادة التي قدّر البعض أنها ستتم، عجائبياً، خلال ساعات.
فكيف تشكّل للوحدة الوطنية، التي ثبت بالاقتراع الشعبي المباشر، أنها مجرد تمنيات، حكومة يتلاقى في أفيائها الأضداد في السياسة حتى لو أنهم شاركوا ذات مصادفة تاريخية في تظاهرة واحدة كانت تحمل من معاني »الرد على الغير« أكثر من معنى التوحّد على الهدف؟
لم يدم ذلك المنظر الأجمل من أن يكون واقعاً غير الفترة التي تحتاجها استشارة كتل الأكثريات التي تبدت عند التسمية وكأنها أكثرية واحدة جامعة مانعة، قادرة على تحمّل مسؤوليات الحكم في المرحلة الحرجة وعلى النجاح في إنجاز مهماته.
لكن الصبح التالي جاء بالواقع المرير: تحولت أكثرية 126 صوتاً من أصل 128 إلى عبء ثقيل على فؤاد السنيورة الذي اختير مرشحاً أوحد لرئاسة حكومة الإنقاذ في »عهد ما بعد العهد«، بل هي تحولت إلى »فخ« سياسي جرى تمويهه بتواطؤ مكشوف بين القوى التي تختلف في مواقفها السياسية، جملة وتفصيلاً، والتي اهتدت فجأة إلى »المشترك« في ما بينها، وأجمعت بغير تمهيد مسبق على أن تمحض ثقتها لشخص »ضحيتها الأولى« بعدما ألبسته لبوس »المنقذ«، وأغوته بأن يتصرف وكأنه »قائد مسيرة التغيير«!
ذلك أن هذه الأكثرية التي قالت »نعم للسنيورة« مركبة من أكثريات، والأكثريات تستند إلى مطالب ظاهرها طائفي ولكن عمقها يكمن في صلب الموقف من النظام السياسي القائم وتحالفاته (العتيقة)، وإن كانت تموّهه بحقها في المشاركة في القرارات المصيرية، وتستقوي بالتزكية الجديدة التي حظيت بها في الانتخابات التي صارت استفتاءً على الخط السياسي لا على أشخاص المرشحين.
بعض هذه الأكثريات ضد النظام القائم، جملة وتفصيلاً.. وهو قد قاتل لمنع قيامه بالمدفع، ولم يكن ممكناً تمرير اتفاق الطائف كقاعدة دستورية وشرعية إلا بإسقاط المقاتل ضده، وبالقصف الجوي المجاز »دولياً«!
ومع أن جنرال واحدة من هذه الأكثريات قد سحب من التداول موقفه »التاريخي« تمكيناً لتحالفه التكتيكي مع رئيس الجمهورية، في مواجهة أكثرية الأكثريات، حتى وهو مختلف مع »الجنرال« الآخر على الاستراتيجيات، إلا أن تأثير الخارج على موقفه ما زال أفعل من أصوات الذين اقترعوا للوائحه الانتخابية بغير أن يقرأوا الأسماء!
وبعض هذه الأكثريات سلمت بهذا النظام كأمر واقع مكروه، ولكنه شر لا بد منه.. وإن كانت قد أعلنت عن »ربط نزاع« مع ما رأته »مساوئ في تطبيق اتفاق الطائف« منتظرة الفرصة للخروج من »اتفاق الإذعان« بغير أن يكون وريثها »جنرال حرب الإلغاء«، إلى الأفق الرحب للديموقراطية خارج »الوصاية السورية« المفروضة بقوة التأييد الدولي، والتي رفضت مساومتها على أن تكون »الشريك المضارب« للسلطة التي أقامتها دمشق في لحظة قدرية..
أما الأكثرية الثالثة فقد رأت في اتفاق الطائف نهاية لدهر تهميشها وحصر مشاركتها في شكليات الحكم دون مضمونه، وهكذا تشبثت به وإن تساهلت في الممارسة باعتباره المكسب الذي يعوّضها حقها المهدور قبل الحرب الأهلية، وحقها المضيّع بعدها..
بالمقابل كان بعض آخر من هذه الأكثريات يرى في اتفاق الطائف الفرصة لإعادة صياغة التوازن الطائفي بما يعطيها المكانة التي حرمها منها النظام القديم، وإن ظلت تتخوّف من تواطؤ الأكثريات الأخرى ضدها، بذريعة الخوف من العدد أو من طبيعة »التحالفات« الخارجية المساندة..
ثم ان هناك أكثريات مركبة من تجميع لأقليات خارجة على مرجعياتها الطائفية انتخابياً، ولكنها عند المواجهة تعود إلى الاصطفاف، مرغمة، حتى لا »تحترق« بالحرم الطائفي عبر اتهامها بأنها »طابور خامس للعدو«.
وسط هذه المعمعة من صراع الأكثريات ضاعت هوية الحكومة العتيدة ومهماتها الملحة، سواء تلك المتصلة بالمواجهة مع الخارج،
أو تلك المتصلة بالصراع مع أهل الداخل..
فحكومة لبنانية تتولى زمام المقادير في صيف 2005، وبعد عشرة شهور من استصدار القرار الدولي 1559، والإلحاح اليومي على ضرورة تنفيذه، لا تستطيع أن تتجاوز الموقف من شرعية المقاومة، خصوصاً أن المكلفين بالتشكيل يحاولون إغراءها بالمشاركة معهم في حكومة الوحدة الوطنية العتيدة..
وهكذا تُستولد إشكالية لا حل لها: إن أقرت الحكومة بالتزامها تنفيذ القرار (الخارجي) كانت كمن يذهب في الداخل إلى الحرب بقدميه، علماً بأن لا طاقة له بها، حتى لو اجتمعت لندائه الأكثريات الأخرى جميعاً، وإن جاهرت الحكومة برفضها الالتزام بنص القرار الدولي كانت كمن تستعدي دول الوصاية الجديدة، الأميركية الفرنسية..
لكل توجه أكثريته، إذاً،
وللتحالف بين الأكثريات المتضادة شروطه: فالقابل مرفوض والرافض مقبول، أو مطلوب، والحكومة بين مطرقة الرافض وسندان القابل،
و»جنرال بعبدا« الذي وجد في الأزمة فرصة للتنفس واستعادة حق الرأي يستند على جنرال الرافضين لكي يحجِّم أكثرية القائلين بحكومة أكثرية الأكثريات، لوعيه أنها لا يمكن أن تصمد لضغط من تراه »أقلية« عددية في المجلس النيابي، متناسية أن السر في الموقف لا في العدد، وأن أي غلط في الموقف يعني الدخول في أزمة حكم مفتوحة عنوانها، الآن، عجز الأكثرية عن إقامة حكومة تستطيع أن تمارس سلطاتها في بلد يفتقر أكثر ما يفتقر إلى سلطة مركزية قادرة وموثوقة من الأكثريات الأقلوية والأقليات الأكثرية جميعاً.
والأزمة مفتوحة، حتى تصير الأكثرية العابرة للطوائف معبّرة عن موقف يقبله الداخل وإن رفضه الخارج، لأن الحكومة سيكون مدى سلطتها لبنان، أولاً وأخيراً، وهو مدى مزدحم بالمشكلات التي لا يملك الخارج أي حل جدي لها، وإن كان يستطيع تعقيدها بالدولار الذهبي!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان