دول في منطقتنا تتوخى لنفسها العظمة فتدعي لنفسها المواجهة مع الامبريالية أو القوة العظمى المهيمنة في العالم. تعتقد أن العظمة تخوّل لها المواجهة. والمواجهة تخوّل لها العظمى. هي وريثة امبراطورية كانت لها عظمة بهلوية أو عثمانية. بالتأكيد لا عظمة في إيران الحالية ولا تركيا الراهنة. كل منهما ترضى تدخل “العظمى” في شؤونها الداخلية. هي ليست عظمى بل معظومة، جريا على عادة التمييز في اللغة بين الفاعل والمفعول فيه. لكن كلا منهما ترتدي ثياباً أكبر من قياسها بكثير (وسيكون نوعاً من البذاءة استخدام المثل الشائع لوصف هذه الحالات). كما هناك بروليتارية رثة هناك عظمة رثة. داخلها انتفاخ ذاتها وخارجها اعتداءات بالواسطة على جيران ضعفاء.
كل منهما حليف لروسيا ومتغازل مع الصين. الأولى عظمى هابطة، فقيرة في كل شيء إلا في السلاح الذي يهدد العظمة الامبراطورية الحقيقية، أو هي تهدده، ثم النفط الذي يعتمد على تصديره والتبعية. لذلك هي دول عظيمى (ع.ظ.ي.م.ى.) كأي دولة من العالم الذي كان ثالثاً، وصار عاشراً أو أدنى. أما الصين فهي تعتمد على تزويد صناعة الغرب، وخاصة صناعة العظمى، بالأيدي العاملة الرخيصة. فكأنها تقدم لتلك (المستثمرة) المالكة للصناعة، العبيد على أرضها (الصين) لا على أرض الدول المالكة. العبيد في جميع مراحل التاريخ السابقة كانوا يبتاعون من أراضي بعيدة، بعد أن يُقتلعوا من جذور، وينقلون للعمل في مزارع ومصانع المشترين على أرض هؤلاء. الآن هم عبيد في أرضهم. سوق نخاسة من نوع جديد.
تدرك الدول المعظومة في منطقتنا أنها لا تستطيع ممارسة سيادتها إلا بتحالف مع دولة عظمى أو دولة عظيمى أو الانقياد لواحدة منهما، وأنها لا تستطيع بسط سلطتها على أية من البلدان المجاورة (عربية في هذه الحالة) إلا كدولة طرفية. في ذلك تناقض بين طرفيتها في أمر وركوبها مركب العظمة في أمور أخرى. هذا البلد الذي يتعرض لعقوبات تفرضها العظمى والذي تضطر من أجل تلك العقوبات الى التفاوض لرفعها، وفي نفس الوقت تعاني من أثر العقوبات عليها وعلى مجتمعها، ولا شك أنها ستعاني من انقسام وتناقض بينها وبين شعبها، والتناقضات الداخلية أقوى من الوحدة الايديولوجية المفترضة قسرا. لا يغرينا تدخل حكوماتها في بلادنا العربية لإشعال الفتن فيها، أو اتخاذ أذرع في بلدان عربية تتخذها أدوات في صراعها مع الامبراطورية. هذه الأذرع هي في حقيقة الأمور وقود لألة الدولة المعظومة. بلادنا تعاني من نوعين من الاستعمار؛ استعمار المعظومة واستعمار العظمى. كأن الأمر يعود بنا الى القرن التاسع عشر عندما كانت الدولة المعظومة لعبة بيد الدول الأجنبية سواء كانت عظمى أو عظيمى. فكل الدول المعظومة تعتمد على تحالفات من الدرجة الثانية مع الدول العظيمى. كل منهما تحاول مصادرة قضية فلسطين لكي تسلخ عنها الطابع الفلسطيني أو العربي، معتبرة أن الشعوب العربية لا تريد أو لا تعرف الدفاع عن قضاياها. في وقت قررت الشعوب العربية منذ ثورة 2011 إسقاط أنظمتها لبناء دول منتجة فاعلة قادرة على المواجهة. انضمت الدول المعظومة الى الثورة المضادة، وهي في الوقت نفسه تخفي احتقارها للعرب لما لهم، أولاً، من تأثير على الدين السائد في الدولتين المعظومتين؛ وثانيهما، كي تستخدما القضايا العربية في بلادهما والعالم. علما بأن القضايا العربية محقة وقضايا العظيمى تحوم حولها الشبهات؛ بالإضافة الى الأطماع في بعض الأراضي العربية ومواردهما.
كان الأجدر بالدول المعظومة أن تتعظ من الثورة العربية للعام 2011، والتي أعلنت أن الأولوية الأولى هي لإصلاح البيت الداخلي والخلاص من أنظمة وايديولوجيات دينية هي في الحقيقة متحالفة بطريقة معلنة أو غير معلنة مع المنظومة الحاكمة العربية التي لم تعد تصلح لشيء، إلا لخيانة قضايا شعوبها، أو هي (الدول المعظومة) تتحالف مع عدو العرب مباشرة بدون خجل أو حياء. أعلنت الشعوب العربية في عام 2011 أن معركتها وأولوياتها هي مع منظومة الاستبداد والتأخر والفقر. ضد الاستبداد طلباً للحرية؛ ضد التأخر طلباً للتقدم؛ ضد الفقر في سبيل العدالة والعيش الكريم.
إن القضية العربية، أو كما سماها “السردية” أحد الأعزاء على القلب، هي في النهاية إقرار لا رجوع عنه بالهوية العربية، وإقرار بالعجز والهزيمة. هي سردية من نوع جديد ترى في المعظومة مكابرة وانتفاخاً ذاتياً، وحنيناً الى عصور ماضية، لم يعد ممكنا استعادتها، والى امبراطوريات صار الحنين إليها نوعا من المنفخة. ما زالت السردية العربية عالمية، في حين أن المعظومة محلية. بالأحرى، أحد الواجبات التي تسعى إليها المسيرة العربية هو عالمية الدعوة. في حين أن المعظومات تطرح أهدافاً، هي في جوهرها محلية، وايديولوجيا فارغة. فإن السردية العربية تطرح أهدافاً عالمية، ويتعيّن عليها صوغ نظرية عالمية أممية لعروبتها. لم يعد بالإمكان أن تبقى العروبة محلية وهي سارت في طريق العالمية عندما أصبح “الميدان” في كل بلاد العالم تقريباً. هو شعار وأسلوب عمل الجماهير المقموعة. العروبة مصيرها العالمية. المعظوميات مصيرها المحلية. وهذا سيكون مقتلها. في المواجهة مع الإسلام السياسي والسلفية يطهّر العرب أنفسهم من الماضي ويتمسكوا بالتاريخ. الماضي مرحلة، أو مراحل، انقضت ولا يمكن أن تعود، كما لم يعد ممكناً العيش على أساسها. التمسّك بالتاريخ هو اعتبار بالتطوّر. المستقبل يصنعه العرب. التعلّق بالماضي عجز يُغرق دول المعظومة.
في الوقت الذي رفعت الشعوب العربية شعار “إسقاط النظام” كانت الدول المعظومة تتدخّل في البلدان العربية متحالفة مع دول المنظومة العربية ضد الشعوب العربية. منطق العرب في شعارهم المذكور هو أن المنظومة العربية الحاكمة هي سبب كل الهزائم، وهي عقبة في وجه التقدم والحرية. تمارس الاستبداد من أجل أن تبقى عائقاً. تنشر الدعاية القائلة أن الاستعمار هو المسؤول وحده عن الهزيمة وعرقلة النهوض. لا تصدقها الشعوب العربية. طبيعي في هزيمة كبرى أن يتحمل كلٌ مسؤولياته. طبيعي أيضاً في معركة محاربة العجز والفساد أن يتحمل الحاكم مسؤولياته. لم يتحمل حكام العرب مسؤولياتهم. أدانوا الشعب بتهمة التخلّف والأصولية والداعشية. اعتبر الحكام وحلفاؤهم المعظومون أنهم على حق لمجرد أنهم يرفعون شعارات تحرير فلسطين ومحاربة العظمى. لم يعد بوسع الشعوب العربية تصديق حكامهم ولا حلفائهم من المعظومين. هم جميعهم، من حكام عرب ومعظومين، على باطل. الشعوب العربية على حق. ما زال المعظومون حاملي شعارات مقاومة قديمة هجرت الى تونس، وعقدت اتفاق أوسلو، ويعيش معظمها في فلسطين يمارسون معركتهم داخل إسرائيل. المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. غيّر العرب وجهة نظرهم بشؤونهم الخاصة، لكن المعظومون لم يغيّروا. يريدون أن يبقى العرب حيث هم ليكونوا مسرح صراع العظمى والعظيمات والمعظومين. وهذا ما يحصل. لا يُراد للعرب أن يخرجوا من أزماتهم وانهياراتهم. كأن المعظومين وعدوتهم الامبراطورية على اتفاق موضوعي، أو تواطؤ، مهما كان الاسم. الدول العظمى أيضاً تريد بقاء العرب حيث هم. التحالف مع المنظومة العربية ظاهر خاصة في سوريا. لا يريد أحد من العظيمات والمعظومون أن يتقدم العرب ويتحرروا. المنطقة العربية ساحة صراع. هو صراع عالمي. تشتق الثورة العربية وقضيتها العالمية من طابع هذا الصراع. قضية العرب في إسقاط الأنظمة قضية عالمية. يرتفع العرب الى الكونية والعالمية. يفتحون أفاقاً جديدة. يكتشفون المجهول. يتهادى المعظومون من الدول الإسلامية المحيطة في المحلية، والأصولية الدينية، وفي أحقاد الماضي، علماً أن ماضيهم جزء من ماضي العرب. اللغة أساسية في هذا الأمر. هم حققوا في ماضيهم ما حققه من ازدهار حضاري بلغة عربية كانت هي لغة جميع المسلمين. كانت هي اللغة فرانكا في الشرق والغرب. انفصلوا عنها فغرقوا في قومية-دينية تطل على الفاشية. اختار العرب طريقاً أخرى. شعوبهم المثقلة بالهزائم والتأخر أخذت حمولتها وانتهجت طريقاً آخر؛ هو طريق العمل والإنتاج والتقدم في كل قطر عربي. وبناء دولة ذات هيبة. وهذا هو الطريق الأفضل لمواجهة الامبريالية، والدولة العظمى، والعظيمات، والمعظومين. اختار العرب، أي الشعوب العربية، طريق إصلاح الداخل؛ الثورة على المنظومة الحاكمة. اختارت منظومة المعظومين ومن بينهم بعض حكومات العرب الطريق الخارجي؛ هي مواجهة الامبريالية العظمى بما لديها من تأخر وتخلف وانغلاق، وفي النهاية ضعف بنيوي. اختار العرب المواجهة الى حين يتمتعون ببنية مجتمعية متماسكة. هذا هو معنى الانفصال بين الطريقين. العرب اختاروا الطريق الطويل. لكنه في النهاية يوصل. المعظومون اختاروا الطريق القصير، وهو لا يوصل إلا الى طريق مسدود، ومزيد من الهزائم. عندما تفاوض على ما يجري في بلدك، فإنك اخترت التخلي عن السيادة، أو جزء منها. وفي الحقيقة اخترت أن تبقى حيث أنت وإن كان الأمر مختلطاً بالكثير من المنفخة والمكابرة. الامبراطورية تواجَه بالتقدم، لا بالتأخر. الغير اختار التأخر لمواجهة التقدم. أصحاب العمامة يهزمون التقدم (عند الامبراطورية). المرتدون من العلمانية الى الأصولية الدينية لا يهزمون الامبراطورية. يقعون في حبائلها وحسب.
ان كنت لا تدري فتلك مصيبة…. وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق