لم يُعرف عن الرئيس السوري حافظ الأسد ولعه بالأسفار، ورحلاته الخارجية محسوبة بدقة متناهية، ولها دائما وظيفتها المحددة في منظوره الاستراتيجي لدور سوريا العربي والدولي، وأساسا في الصراع العربي الإسرائيلي.
لذا فإن توقيت زيارته، الخميس المقبل، إلى فرنسا لا يمكن فصله عن مجمل التطورات التي عصفت »بالعملية السلمية« فجعلتها من الماضي، خصوصا أنها قد ضربت دور الرعاية الأميركية المنفردة والمطلقة فأسقطت أهليتها لاحتكار المسرح، بعدما أثبت التطرف الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو أنه أقوى في واشنطن من الرئيس الأميركي بيل كلينتون ذاته.
إنها زيارة لأوروبا، عبر فرنسا، تحمل الدعوة بل التحريض المباشر لأن يتقدم الاتحاد الأوروبي للعب »الدور الذي يبحث عن بطل« ليس في »الشرق الأوسط« فحسب، بل وعلى المستوى الكوني، معيدا إلى السياسة الدولية شيئا من التوازن المفقود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي.
ويدرك حافظ الأسد بطبيعة الحال، ان باريس ليست موسكو الماضي، كما أنها ليست واشنطن المستقبل، وأن الاتحاد الأوروبي ليس البديل ولا المنافس وحتى الشريك الجدي والفعّال للنفوذ الأميركي، إقليميا ودوليا، ولكنه مؤهل لأن يكون المحرِّض أو المحرِّك »لتحرير« الدور الأميركي الذي لا بديل منه في مواجهة التعنت الإسرائيلي المتمادي والذي يتسبّب بخلق حالة من الاضطراب الشامل المتفلت من ضوابط السياسة، والمرشح لأن يتفاقم إلى حد التفجر الانتحاري.
وإذا كانت الرحلة الأولى إلى فرنسا، في حزيران 1976، قد شكلت من جانب سوريا إعلاناً بإنهاء الحرب التي ظلت مفتوحة منذ بدايات هذا القرن، فإن الرحلة الثانية الآن تطمح لأن ترسي دعائم شراكة استراتيجية مع أوروبا عموما، انطلاقا من فرنسا، على حد ما يقول وزير خارجية سوريا فاروق الشرع:
»إن الجغرافيا ببعديها السياسي والاقتصادي فرضت هذه العلاقات التي ربطت شعوب المنطقتين بمصالح متبادلة وتراث روحي، وبمعين غني لا ينضب من المعارف والثقافة.
»… ولقد حافظت هذه العلاقات على حيوية لا نظير لها، وتجسدت بحركة لا تهدأ من الناس: تجاراً ومستثمرين، فاتحين ومستعمرين، مبشرين أو محاربين..«.
انتهى زمن الحروب العربية الأوروبية وجاء زمن الشراكة، إذن، والتعاون العربي الأوروبي على المحك الآن: »والاتحاد الأوروبي قادر لو أراد«… وإسرائيل لا ترتاح لدور هذا الاتحاد، مع التذكير بأن »إسرائيل لا تستطيع أن تعيش وأن تزدهر اقتصادياً من دون أوروبا«.
الرسالة واضحة، وقد أُعلنت من قبل أن يصل حافظ الأسد الى باريس التي استقبلته في زيارته الأولى بكثير من الجفاء تمثلت في حملة انتقادات واسعة شاركت فيها قوى سياسية متعددة، وكان بين عناوينها »لبنان« بمعانٍ تستفز كل السوريين وأكثرية اللبنانيين.
لبنان اليوم بين عناوين التعاون لا التصادم بين سوريا وفرنسا… بل لعله قد شكّل حلقة اتصال ممتازة، ولا سيما أن مقاومته الوطنية الإسلامية للاحتلال الإسرائيلي، المعززة بالرعاية السورية، قد وفرت لدمشق الفرصة لأن تعمل جاهدة فتنجح في إضافة فرنسا إلى عضوية لجنة »تفاهم نيسان«، برغم التحفظات والاعتراضات العلنية الحادة من طرف كل من الأميركيين والإسرائيليين.
يضاف إلى ذلك الدور الشخصي الذي لعبه الرئيس رفيق الحريري في توضيح ما ينبغي توضيحه، وفي تصفية تركة الماضي الثقيلة من سوء الفهم الفرنسي للدور السوري في لبنان، تمهيداً للمباشرة بعلاقة مفتوحة على مستقبل التعاون الثنائي، اقتصادياً، والشامل سياسياً.
هذا مع الإشارة الى أن الرئيس السوري كثيراً ما أرجأ البحث في العلاقات الثنائية مع هذه الدولة الكبرى أو تلك، وبالذات مع الولايات المتحدة الأميركية، لكي يمنع تحويل المصالح المباشرة الى أداة ضغط أو ابتزاز للموقف السياسي لبلاده التي ما تزال تكافح لتحرير أرضها من الاحتلال الإسرائيلي.
فحافظ الأسد ليس ممن يقايضون الحقوق القومية بمصالح قطرية مباشرة، لا في ما يتصل بفلسطين على وجه الخصوص، ولا في ما يتصل بلبنان، وإجمالاً في كل ما يتصل بأساسيات الصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم أساسيات »التسوية« متى توفرت الظروف المؤاتية لعقدها.
لهذا كله فمن المؤكد أن جدول أعمال المباحثات بين حافظ الأسد وجاك شيراك سيشمل قضايا من نوع:
} الدور الفرنسي، ومن ثم الأوروبي، في ظل التهاوي الفعلي في الدور أو المسؤولية الأميركية لما يسمى »العملية السلمية«.
} العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، ومن ثم الأوروبية الإسرائيلية في ظل استمرار التعنت الإسرائيلي الراهن، الذي وصل في لحظة معينة إلى حد أن وجّه نتنياهو تهديدا مباشرا الى خمس عشرة دولة أوروبية إذا هي امتنعت عن شراء المنتجات الزراعية للمستوطنات الإسرائيلية المبنية على أراضٍ مغتصبة من أصحابها الفلسطينيين.
} العلاقات مع تركيا، في ظل المدى المفتوح للتعاون العسكري التركي مع إسرائيل، والذي بدأ يتخذ شكل التحالف الاستراتيجي ضد العرب عموما وضد سوريا على وجه التحديد.
} موقف فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي من استمرار سياسة الكيل بمكيالين المفروضة على الأمم المتحدة، ومن ثم استمرار الحصار المفروض على العديد من الأقطار العربية (ليبيا، العراق، السودان..).
لقد تعوّد حافظ الأسد أن يعطي نفسه في الخارج حق النطق باسم العرب، مركزاً على المشترك من المصالح بينهم متبنياً موقف المستضعف أو المغيَّب.
وهو يذهب الآن الى فرنسا مسبوقاً بمواقفه المتميزة عربيا ودوليا، والتي تؤهله لأن يعطي بقدر وربما أكثر مما يأخذ.
وفرنسا شيراك التي تستقبله باسم أوروبا تعرف انها إنما تختار الباب الصحيح إلى منطقة تعيش حالة اضطراب خطير بين أسبابها أن بعض قادتها قد أضاعوا الطريق وضيّعوا قيمة بلادهم بالهرولة إلى سلام زائف، فأعطوا من لا يستحق ولم يأخذوا غير الخيبة وغير نقمة شعوبهم.
إنها البداية لعلاقة عربية أووبية سيكون لها شأنها في مستقبل هذين العالمين اللذين تجمعهما الى المصالح الكثير من القواسم المشتركة، وقد عززها كثيرا التطرف الإسرائيلي والتخاذل الأميركي.
وما بعد الزيارة سيكون مختلفا جدا عما قبلها.