بين حين وآخر، أو بين غارة إسرائيلية وأخرى، عسكرياً أحياناً وسياسياً في كل الحالات، تعمّم »أوساط معينة« في بيروت تلفيقات عن انسحاب إسرائيلي وشيك من هذه المنطقة المحتلة أو تلك من جنوب لبنان.
مرة تكون جزين،
ومرة تكون حاصبيا والقطاع الشرقي،
ومرة أخرى تكون منطقة شرقي صيدا (جبهة كفرفالوس)،
ودائماً يكون الهدف الضرب على الوتر الطائفي، ومحاولة تقديم صورة للاحتلال الإسرائيلي عند »المسلمين« مختلفة عن تلك التي للاحتلال عند »المسيحيين«..
وليس جديداً أن يحاول الاحتلال نفسه إشاعة صورتين مختلفتين، وربما صور متعددة لكل طائفة أو مذهب عن ذاته، فأبسط شروط هذه الحرب أن يعتمد العدو سياسة »فرّق تسد«، إذا ما استطاع،
كذلك ليس جديداً أن تروِّج بعض الأوساط السياسية المحلية، مستندة إلى تقارير أو معلومات أو همسات دبلوماسية مسموعة، لمثل هذا المنطق المزوِّر لطبيعة العدو، والمضلِّل للمواطنين، والملفّق بداية وانتهاء..
الجديد أن تستمر مثل هذه اللعبة المكشوفة حتى مع وصول أقصى التطرف الإسرائيلي ممثلاً ببنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم، ومع مجاهرته ببرنامجه السياسي، ومع إيغاله في مخططه لتهويد كامل فلسطين، والقدس أساساً، ومع تنصله من الاتفاقات البائسة والمهينة (للأطراف العربية) وتجاوزها فعلياً وعلى الأرض بهذا الزرع المنهجي للمستوطنات (والمستوطنين المسلحين) على كل شبر يستطيع انتزاعه من أهله الفلسطينيين.
الجديد أن تتبرع »أوساط معينة« في بيروت لتنظيف صورة نتنياهو، وأن تحاول تقديمه »بابا نويل« لفئة من اللبنانيين ومنتقماً جباراً من أولئك الذين »يعتدون« عليه، زاعمة أن انتقامه مرهون بأن يوقفوا اعتداءاتهم، بحيث تصير مقاومة المحتل هي مانعة الانسحاب والسلام وهي هي المشكلة وليس الاحتلال الإسرائيلي بذاته.
وأخطر ما في هذا »الجديد« أن يربط هذا »الانسحاب« الإسرائيلي الوهمي بزيارة البابا يوحنا الثالث والعشرين، المرتقبة في لبنان، والمقررة في العاشر من أيار المقبل.
ومع أن مجال الاستثمار الداخلي لهذه الزيارة مفتوح ومتاح لمن يرغب ولمن يستطيع، فمن التجني على البابا (وعلى لبنان) أن يربط اسمه بمثل هذه المناورات الإسرائيلية المكشوفة، وأن تقدم زيارته وكأنها ذات أغراض سياسية مباشرة، أو أنها تستهدف التأثير على موقف لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، بدءاً بالمقاومة النبيلة وانتهاء بالتلازم الكلي بين المسارين اللبناني والسوري في مواجهة الحرب الإسرائيلية المفتوحة، عبر التفاوض، أو عبر تجميده الراهن الذي يكاد يجعله غير ذي موضوع.
لقد اختار البابا أن يجيء في زيارة خاصة للبنان وحده، ولم يشأ أن يربطها بجولة في المنطقة، كان الإلحاح الإسرائيلي عظيماً أن تتسع لتشمل القدس، التي يريدها الإسرائيليون عاصمة موحدة وأبدية لهم (!!) بعد طرد أهلها منها أو محاصرتهم في »غيتو« ضيق لا يخرجون منه ولا تدخل إليهم فيه الشمس حتى يتهاووا عائلة أثر عائلة فيرحل من يرحل وينحدر من يبقى إلى درك الخدم والعبيد للأسياد الآتين من قلب الأسطورة التوراتية المعادية لكل ما هو عقل وحق وقانون.
ومن المفارقات أن تبدأ »هرولة« بعض اللبنانيين بينما بعض أقطاب »الاعتدال« العربي قد توقفوا عنها.
فليس سراً أن ملك المغرب قد رفض إلحاحاً أميركياً عليه بضرورة استقبال نتنياهو، كما رفض أن يلتقي وزير الخارجية الإسرائيلية المن أصل مغربي (ديفيد ليفي)، كرد منطقي على جموح التطرف الإسرائيلي وانتهاجه سياسة التنصل من أي اتفاق، ومن أي تفاوض، واعتماده لغة فرض الأمر الواقع بقوة السلاح… والفيتو الأميركي في انتظار من يشكو أو يتذمر أو يفتقد المرجعية الصالحة لعرض ظلامته!
كذلك ليس سراً أن الرئيس التونسي قد جمّد علاقاته مع إسرائيل، وطلب إلى المسؤول عن مكتب الاتصال التونسي عدم العودة إليها، مع التأكيد أن »الموظفين الإسرائيليين« المكلفين بمكتب تونس لم يجدا من يؤجرهما داراً للسكن،
كذلك فإن أمير قطر قد أعاد تأكيد التزامه بقرارات قمة القاهرة، خصوصاً وأن »ظروف الحصار« التي اضطرته إلى فتح الباب أمام الإسرائيليين قد انتهت، وسقطت معها صفقة الغاز الأسطورية.
أما سلطان عُمان فقال إنه سيحاول جهده مع الأميركيين لكي يعيدوا النظر في موقفهم المحابي للتطرف الإسرائيلي على حساب الحقوق العربية وبديهيات شروط السلام كما اعتمدت في مدريد.
ان نتنياهو ليس بحاجة إلى مَن يشرح له سياسته،
إنها معلنة بالمستوطنات، بمصادرة الأراضي، بالطرد اليومي للفلسطينيين من بيوتهم، بإسقاط الاتفاقات، بالتنصل من كل ما كان تمّ التوصل إليه بالتفاوض،
وهي معلنة وممارسة في لبنان بالنار التي تحرق يومياً هذا الجسد اللبناني المعذب،
فمن يحاول مسح دمائنا من على شفاه الذئب، وتقديمه بصورة الراغب في السلام الذي لا يجد له شريكاً يتحلى بالشجاعة المطلوبة لمثل هذا »الإنجاز التاريخي«؟!
والأخطر: مَن يحاول زجّ اسم البابا في مثل مشروع الفتنة هذه؟!
علينا أن نفتح عيوننا جيداً على ما سيُدبر غداً؟