رفح ـ حلمي موسى
في اليوم الرابع والسبعين بعد المئة، مازلنا نؤمن بأن ما بعد الضيق إلا الفرج. ونحن في ضيق طال وامتد، ولا يمكننا أن نعتاد عليه. وصبرنا نابع من إيماننا بأن هذا الضيق هو مجرد غيمة عابرة، نعود بعدها لنواصل حياتنا على أرضنا بحرية واقتدار. وهذا ما سيكون، لأنه لا معنى لحياتنا من دون أن نكون أحرارا، أسياد مصائرنا.
***
يستمر العدوان الإسرائيلي على غزّة ويشتّد عنفا، وتتصاعد تهديدات تزداد جدّية إزاء لبنان، فيما الولايات المتحدة وإسرائيل تغرقان في مسرحيات سمجة ـ مهينة للشعب المهدّدة حياته في كلّ لحظة، وللعالم الذي طالب العدو بوقف عدوانه فورا ـ للتغطية على الاستمرار في المشروع المشترك بين الطرفين منذ اللحظة الأولى والقاضي بإغلاق ملف القضيّة الفلسطينية للأبد، بمباركة عربية علنية.
وفيما يزور وزير حرب العدو يؤاف غالانت واشنطن ومعه قائمة بمطالب عسكرية جديدة من أسلحة وذخائر ومقاتلات حربية من نوعي “إف 15” و”إف 35″، وقد فتحت له أبواب العاصمة الأميركية كلها من البيت الأبيض نزولا، لم يعلن بعد إذا تمت الموافقة على مطالبه كلّها، في تعتيم متعمّد يقابله شرح وتفصيل بلا معنى لمسرحية “التوتر” بين سيد البيت الأبيض ورئيس حكومة العدو حول زيارة وفد إلى الولايات المتحدة لبحث كيفية … الهجوم على رفح!
وبعد يومين فقط من “عنطزة” رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، على الرئيس الأميركي جو بايدن وتنفيذ “تهديده” بعدم إرسال الوفد الإسرائيلي الذي طلبه الأخير لمناقشة “بدائل” اجتياح رفح برا، عاد نتنياهو وطلب من الإدارة استقبال الوفد. إلا أنّ “عنطزة” نتنياهو تلتها فورا “عنظزة” ثانية عندما أعلن ديوانه، بعد نشر وسائل الإعلام خبر تراجعه عن منع إرسال الوفد، أنه لم يوافق على إرسال الوفد!
ولم تتضح الأمور إلا بعد أن أعلن البيت الأبيض أنه تلقى طلبا من إسرائيل باستقبال الوفد، وأنه سينسّق الأمر. ومعروف أن عدم ارسال الوفد جاء ردا على عدم استخدام واشنطن للفيتو ضد قرار مجلس الأمن القاضي بوقف فوري لإطلاق النار في غزة. وقد أثار قرار نتنياهو انتقادات واسعة في كيان العدو وأطلقت اتهامات لرئيس الوزراء بتعمد الصدام مع واشنطن، وهو أمر يلحق الضرر بأمن إسرائيل.
وكتب المراسل السياسي لموقع “والا” باراك رافيد أن “نتنياهو يعتزم إرسال أقرب مستشاريه ـ الوزير رون ديرمر ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي – لإجراء محادثات في البيت الأبيض بشأن عملية رفح ـ ربما في وقت مبكر من الأسبوع المقبل.
وكان قرار نتنياهو بإلغاء الرحلة في مطلع الأسبوع، والمواجهة الإعلامية التي اندلعت حول القضية، قد زادت من نسبة التوتر القائم بين نتنياهو وبايدن.
واعتبر أحد كبار المسؤولين الأميركيين أنها ” كانت “دراما” غير ضرورية على الإطلاق من جانب نتنياهو”. ومثله، اعتبر مسؤول إسرائيلي قائلا إن نتنياهو “أخطأ وهو الآن يبحث عن سلم للنزول عن الشجرة”.
ونقل رافيد عن “مسؤول أميركي كبير” قوله إن مكتب رئيس الوزراء اتصل بالبيت الأبيض يوم الثلاثاء وطلب إعادة جدولة زيارة ديرمر وهنغبي لمناقشة عملية محتملة في رفح.
أضاف المسؤول الأميركي: “نحن نناقش معهم الآن موعدا سيكون مناسبا للجميع. من المحتمل أن يحدث ذلك قريبا جدا، لكن ليس لدينا موعد محدد بعد”.
إلا أن مكتب رئيس الوزراء قال إن نتنياهو لم يوافق على مغادرة الوفد، لكنه في الوقت ذاته لم ينف أن المحادثات تجري في هذا الشأن.
وأكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير في مؤتمر صحافي أن “مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي وافق على إعادة جدولة اللقاء حول رفح” مشدّدة على أن “المناقشات بشأن رفح هي “مسألة ملحة”.
وكان نتنياهو قد التقى في مكتبه أمس بالسيناتور الجمهوري ريك سكوت، وبحث معه قضية الحرب على غزة. وفي بيان صدر بعد الاجتماع، أعلن نتنياهو أن عدم ارسال الوفد إلى واشنطن “كان رسالة لحماس (!!) لعدم الاعتماد على الضغط. إذ لن ينجح ذلك. وآمل أن يفهموا الرسالة”.
وقال مسؤول أميركي كبير إن نتنياهو أرسل بالفعل يوم الثلاثاء رسالة بالفحوى نفسها إلى البيت الأبيض وأوضح أنه لا ينوي بدء مواجهة مع إدارة بايدن. وقال المسؤول الأميركي إن بعض كبار مستشاري بايدن ضحكوا بصوت عالٍ عندما سمعوا تفسير نتنياهو الجديد لإلغاء رحلة الوفد.
وخلف الكواليس، نقل رافيد عن إثنين من كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين إنه في يوم الأحد، وقبل التصويت في الأمم المتحدة، اتصل الوزير رون ديرمر بكبير مستشاري بايدن لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، معربا عن غضبه الشديد من نية الولايات المتحدة عدم استخدام حق النقض ضد قرار مجلس الأمن.
ووفقًا لمسؤول أميركي كبير، ارتفعت حدة المكالمة الهاتفية إلى درجة عالية للغاية، حيث اتهم درامر إدارة بايدن بخيانة إسرائيل وهدد بأن إسرائيل سوف “تقاتل” الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتصويت.
وعندما أعلن نتنياهو بعد التصويت أنه سيلغي سفر ديرمر وهنغبي إلى واشنطن، قرر البيت الأبيض التركيز على اللقاءات مع وزير الدفاع يؤآف غالانت الذي كان موجوداً بالفعل في واشنطن.
وقد التقى غالانت في اجتماع مطول يوم الاثنين مع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ثم عاد إلى البيت الأبيض يوم الثلاثاء لإجراء جولة أخرى من المحادثات. والتقى غالانت أيضًا بوزير الدفاع أوستن ومدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز. وكان لافتا قول مسؤول أميركي كبير عن المحادثات مع غالانت أنه “كان من الجميل التحدث إلى شخص راشد يعيش على الأرض ويمكنك إجراء مناقشة عادية معه”.
من جانبها، أعلنت صحيفة “يسرائيل هيوم” المقربة من نتنياهو، أنه بعد إلغاء زيارة الوفد إلى واشنطن، ناشد البيت الأبيض إسرائيل إعادة جدولتها لسماع بدائل العمل في رفح.
أضافت الصحيفة أنه وصلت بالفعل دعوة صباح أمس من البيت الأبيض تطلب تنسيق الزيارة. بمعنى آخر، توجد اتصالات بين الطرفين، لكن لا يوجد تأكيد رسمي حتى الآن.
وكانت شبكة “إن بي سي” الأميركية أول من بث بعد ظهر أمس (الأربعاء)، أن نتنياهو أبلغ البيت الأبيض برغبته في تحديد موعد جديد لوصول وفده إلى واشنطن لبحث قضية رفح.
ويبدو أن التوتر بين نتنياهو وإدارة بايدن اتخذ ابعادا خفية وكامنة لا تظهر بكامل صورتها. فقد نقلت صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية عن مصدر إسرائيلي قوله إن “أميركا أدارت ظهرها لنا، ومن دون دخول رفح لا توجد فرصة للانتصار”.
وفي مقابلة مع الصحيفة، تحدث مسؤولون إسرائيليون كبار عن استكمال الأهداف القتالية وتدمير “حماس”، وعن الوضع القتالي الفعلي. وقالوا “إنهم يخوضون حرب عصابات، لكن من دون الدعم الأميركي لا يمكننا الفوز”
واعترف مسؤولون في المخابرات الإسرائيلية لصحيفة “تلغراف” أمس (الأربعاء) بأن “إسرائيل ربما لن تكون قادرة على تدمير حماس برغم ستة أشهر من القتال العنيف في غزة”، محذّرين من أن “الهدف الرئيسي لغزو غزة يواجه الفشل مع تحول الرأي العام الدولي ضد إسرائيل”.
وقال مصدر استخباراتي إسرائيلي إنّه “لو سألتني قبل شهر، لقلت بالتأكيد نعم، يمكننا القضاء على حماس، لأنه في ذلك الوقت كان الأميركيون يدعمون إسرائيل”.
وادّعى المصدر أن هذا التقييم قد تغير الآن، محذّرا من أن “حماس تركز على البقاء حتى الصيف، عندما تبدأ الحملة الانتخابية الأميركية حيث من المتوقع أن يتضاءل الدعم لإسرائيل أكثر” مضيفا أن حماس والإيرانيين يراهنون على هذا الأمر.
إلى ذلك، قال مسؤول في الجيش الإسرائيلي في قيادة الجبهة الجنوبية للصحيفة: “لم تعد حماس تعمل كجيش. لقد تم القضاء على وحداتها ولم يعد لديها قيادة وسيطرة مركزية. كل وحدة تعمل بشكل مستقل، وتفعل ما تعتقد أنها يجب أن تفعله، ولكن لا يوجد مركز تحكم يمكنه تحريك الوحدات”.
أضاف “إنهم في حالة سيئة للغاية، ولكن ذلك يعني إنهم أصبحوا يتبّعون النمط القديم لحرب العصابات. إنهم يعملون كإرهابيي عصابات، وعندما تعمل بهذه الطريقة، فإنك لا تحتاج إلى البنية التحتية والمرافق، بل تذهب من منزل إلى منزل، تختبئ وتستخدم “آر بي جي” والقنابل اليدوية ثم تختفي”.
وزعمت مصادر استخباراتية إسرائيلية إن القيادة المركزية لحركة حماس لم تعد لديها “صورة واضحة عما يحدث” مع بقية مقاتليها في غزة المدفونين عميقا تحت الأرض في شبكة الأنفاق.
وقال مصدر في المخابرات الإسرائيلية إن “معلوماتهم الاستخباراتية محدودة للغاية، وليس لديهم كاميرات مراقبة في كل مكان كما كانت الحال قبل أن ندمّرها، وبالتالي فإن صورة الوضع العام محدودة للغاية لديهم”.
أضاف “حتى أولئك الموجودين فوق الأرض يتحركون باستمرار. أنت لم تعد ترى الهجمات الكبيرة المنظمة على إسرائيل التي كنا نراها في بداية الحرب عندما دخلنا غزة.”
وقال المصدر إن “الولايات المتحدة لا تؤيد دخول رفح كما فعلت من قبل، لذا فإن الأوراق ليست جيدة في الوقت الحالي، مما يعني أن إسرائيل بحاجة إلى القيام بشيء دراماتيكي وجذري لتغيير الزخم والمناخ، ولكن بطريقة عدوانية للغاية، والتي بدونها تبدو فرص حماس في البقاء أكثر ترجيحًا”.