لم يشعر اللبنانيون يوماً بمثل هذا الحب لعبد الحليم خدام وهم يرونه يهوي خلف المنبر، بينما هو يخطب في ذكرى استشهاد رشيد كرامي، في معرض طرابلس الدولي، ظهر أمس.
لم يكن الدافع هو مجرد التعاطف الطبيعي مع ضيف كبير أتى لمشاركتهم مناسبة غالية على قلوبهم، فأصيب بعارض صحي، بدا للوهلة الأولى، خطيراً، فنقله ونقلهم معه إلى المستشفى للاطمئنان على سلامته وعلى قدرته على متابعة دوره في خدمة قضايا بلاده، وهو الذي عرفوه رفيقا وصديقا ووزيرا ثم نائبا للرئيس السوري الاستثنائي الراحل حافظ الأسد، ثم لنجله ومكمل مسيرته الدكتور بشار الأسد.
ولم تكن الذكريات، العامة أو الشخصية، عن هذا القيادي السوري البارز، الذي دخل بيوت اللبنانيين جميعاً، وصار »عائليا« حتى عند المعترضين على »الوجود العسكري السوري« وعند المطالبين بوقف »التدخل السوري« في الشؤون الداخلية، هي سبب اللهفة والقلق والتوجس الذي سبق الاطمئنان إلى أنه بخير، وأن الأزمة الصحية عارضة.
فليس من لبناني، كائنا ما كان موقفه السياسي، إلا ويتحدث عن »أبي جمال« باسمه مجردا وكأنه ينقل عنه، أو يرد عليه، أو يناقشه أو يروي عنه »شهادات« في الأشخاص والأحداث، بوصفه »المرجع« و»الخبير« الذي لا ينطق عن الهوى، بل عن معرفة تفصيلية، أو عن قصد في التمهيد لخطة جديدة أو لحركة جديدة في »المبادرة« التي تولى تنفيذها في لبنان تحت رعاية حافظ الأسد لأكثر من ربع قرن بلا انقطاع.
الأهم والذي أضفى على مشهد التهاوي خلف المنبر بُعداً درامياً، أن ما كان عبد الحليم خدام يقوله، تلك الظهيرة في طرابلس، وعلى مسمع الحشد الفخم الذي جمعته المناسبة، قد اكتسب أبعاد »الوصية التاريخية« الموجهة إلى اللبنانيين من قيادي سوري عريق في تجربته وخبير في أحوالهم وأمزجتهم كما في قياداتهم ومراجعهم ومناطقهم وعائلاتهم الحاكمة العتيقة منها والمستجدة، المتجذرة والطارئة والمستولدة حديثا أو المستنسخة بالقوانين الاستثنائية أو »لمرة واحدة فقط«.
لقد سمع اللبنانيون من نائب الرئيس السوري، قبل تعرضه للإغماء، ثم قرأوا في النص الذي لم يكمل تلاوته، ما يتمنون أن يروه مجسدا على الصعيد السياسي في مسلك رؤسائهم، خصوصا في هذه اللحظة بالذات، وبينما الاختلال في العلاقات الشخصية قد عكس نفسه سلبا على صورة الحكم، بل الدولة، وعزز اليأس من إمكان الخروج من هذه الدوامة المنهكة التي تعصف باللبنانيين فتضيق عليهم أسباب الرزق، ثم تضيف الى أزمتهم الاقتصادية أثقال الاعتلال في العلاقات الرئاسية، وتهاطل الدعوات الى الحوار بين طرشان الطوائف والمذاهب والاحزاب والمنابر والقراني وصولا الى المجلس النيابي الذي يراوح بين أن يكون صورة بلا صوت أو شكلا بلا مضمون أو جسدا مشلولا بلا قدرة على الفعل.
توالت كلمات »أبي جمال« صريحة، منبهة، محذرة، أخوية، ودودة، ناصحة، ناضحة بالقلق على مستقبل هذا البلد المأزوم، لا استعلاء فيها ولا استقواء، لا اقليمية ولا شوفينية، لا تحريض فيها ولا تشف، لا أثر للنبرة الانتقامية من الماضي والذين أساؤوا فيه فخربوه، بل التركيز كله على الحاضر ومخاطره والمستقبل المهدد بالعدو الاسرائيلي كما بخطر أفظع هو الانقسام الداخلي واستمرار الخلاف على البديهيات الوطنية.
»في جميع الدول التي تعرضت لحروب داخلية، تمزقت وحدتها الداخلية ولا تزال، ولبنان وحده استطاع النهوض واستطاع استعادة وحدته وعليكم، أيها الأخوة أن تكملوا مسيرة النهوض على الوحدة الوطنية..
»احرصوا أيها الأشقاء في لبنان على وحدتكم الوطنية، فهي حصنكم، وهي طريق نهوضكم، وناضلوا من أجل الخلاص من كل الموروثات الجاهلية، ويجب ألا يكون الدين سلاحا يستغله المتسللون والمتسلقون والانتهازيون لحماية مصالح أو كسب منافع… وتجنبوا التعصب، لأن التعصب يغيب العقل ويعمي البصيرة ويضل الطريق ويقود الى الهلاك. عدوكم وحده يكسب من الفرقة والتنازع بينكم، فلا تقدموا للعدو هدية على حساب وحدة الوطن وأمن البلاد«!
أما ما تعذر على »أبي جمال« إكمال قوله من هذه الوصية التاريخية، فأكثر تحديدا:
»ساندوا دولتكم بمؤسساتها الدستورية، فهي حصن لكم، واعلموا أن دولة فيها نقص أو ثغرات خير ألف مرة من غيابها، لأن غياب الدولة يحول المجتمع الى غابة يفترس فيها القوي الضعيف، ويصبح المواطن مغتربا في وطنه أو بعيدا عنه.
»لا تفتحوا جراحات الحرب، وضمدوا ما بقي من جروح حتى لا تتقيح ويتسمم الجسد ويضعف ويفقد المناعة،
»لقد هزمتم إسرائيل بوحدتكم، فلا تحولوا النصر إلى هزيمة، ولا تحلوا التناحر محل التلاحم،
»… ليكن الحوار سبيلكم لأن التشاحن يولد التوتر، والتوتر يعيق النهوض ولا تدعوا خلافا يدفع بعضكم للكيد للدولة ظناً أنه يكيد لشخص فيخسر الجميع وتزداد المعاناة..«.
أما الشق العربي من الوصية فيمكن تلخيصه في المواقف المبدئية الثابتة لسوريا، سواء مطلبها في السلام العادل والشامل، أو ضرورة التصدي للعدوان الإسرائيلي المفتوح، أو الدعوة لاحتضان الانتفاضة الفلسطينية حتى تلحق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.
لقد سمع المواطنون هذه »الوصية« وقدّروا صدورها عن الممثل الشخصي للرئيس بشار الأسد، خصوصا وأنه عبد الحليم خدام بالذات، واعتبروها صالحة لأن تكون أساسا لنهج سياسي مرتجى بقدر ما هو مفتقد… مع استذكار المناسبة والتداعيات السياسية التي أثارتها وما زالت تثيرها، والتي اتخذت بُعداً طائفيا كاد يخلط بين القاتل والقتيل الشهيد.
وإذا كان اللبنانيون قد شعروا بارتياح غامر وهم يطمئنون إلى سلامة »أبي جمال«، فإنهم يتمنون الآن لو أن قياداتهم لا سيما الرسمية منها تحقق هذه الوصية، وتؤكد أنها لا تقل حرصا على لبنان واللبنانيين، في حاضرهم ومستقبلهم من القيادة السورية.
أما القيادات البعيدة، فتظل بعيدة، ولو صديقة.