طلال سلمان

واسرائيل تباشر حربها ضد ذات

العرب هم السابقون والإسرائيليون هم اللاحقون، مع اختلاف المواقع والأسباب.
إنها الحرب تنتقل من »الخارج« إلى »الداخل«، من القتال ضد »العدو، الآخر« إلى الاقتتال بين العقيدة وبين الواقع السياسي، في قلب »الذات« الواحدة.
في حالة العرب، انتقلت الحرب إلى »الداخل« بعدما أوقفها العجز عن مواجهة »الخارج«، أي »العدو«.
أما في حالة الإسرائيليين فقد أوقفها إمحاء أو غياب »العدو« أو انتقاله الدراماتيكي إلى الضفة الأخرى حاملاً معه أوهام التحالف مع عدو الأمس.
والمشهد الإسرائيلي الذي استولده اغتيال المحارب القديم إسحق رابين الذي حوّلته الهزيمة العربية إلى »داعية سلام« يستحق القتل جزاء »انحرافه« بيد أحد أبنائه من المحاربين الجدد، يكاد يكون تكرارù للمشهد العربي عند اغتيال أنور السادات، في مصر، والذي تتوالى فصوله وتداعياته الدموية على امتداد »المسرح« السياسي العربي منذ ثلاثين سنة تقريبù.
مع انفجار النظام العربي بهزيمة 1967، ثم عجزه عن تحقيق النصر الممكن في حرب 1973، اندلعت الحرب العربية ضد الذات، شرسة وشاملة، خصوصù وقد ترافقت مع اضطرارهم للتسليم بالكيان الإسرائيلي، ولو كأمر واقع مفروض بالقوة، قوته أولاً وضعفهم ثانيù وقوة الدعم الدولي المفتوح لهذا الكيان كحقيقة سياسية مستحدثة في قلب المنطقة العربية.
ولقد عصفت الحرب ضد الذات بكل ما كان قد باشر ببنائه العرب:
مزقت يقينهم، وضربت احترامهم لأنفسهم. شطبت مؤسساتهم السياسية وضربت أحزابهم وشككت بسلامة منطلقاتهم العقائدية. عصفت بصفوفهم، ونقلت الحرب من الجبهة مع »العدو« في الخارج إلى داخل أقطارهم، أو في ما بين »دولهم« وهددت الوحدة الوطنية داخل كل قطر. وفي النهاية ارتطمت بالحاجز الأخير، الذي يتجاوز السياسة بمدلولها اليومي: الموروث الديني، خصوصù مع التجليات اليومية والدموية للطابع الديني للمشروع الصهيوني الإسرائيلي.
بل أن تلك الحرب ضد الذات سمَّمت الحياة اليومية للعرب، في مختلف أقطارهم. سمحت للعسكر بأن يلغوا السياسيين وبدايات الحياة السياسية بالتقاليد الديموقراطية الغربية… ثم عندما فشل العسكر نشأت تحالفات هجينة بين العسكر الذين صاروا الآن سياسيين وبقايا »الاقطاع القديم« المتجدد بغربته وموجة جديدة من رجال المال والأعمال المشبوهي النشأة والذين دفعهم إلى الصدارة زخم الاندفاعة الأميركية للهيمنة على الكون بمنطق النظام العالمي الجديد الذي يلغي »الدولة« ومعها القطاع العام والاقتصاد الموجه ويخلي الساحة أمام الفرد الغني والمستثمر والمحتكر بدلاً من الحاكم القوي.
* * *
هو دور إسرائيل الآن لمباشرة حربها ضد طبيعتها الأصلية، ضد الذات.
فالنصر الذي يفوق القدرة الذاتية يماثل في الأوهام التي يستولدها، الهزيمة التي تتجاوز التوقعات والأهلية والإمكانات المفترضة.
وهو نصر ثقيل الوطأة بأكثر مما تطيق إسرائيل احتماله، لأنه يكاد يلغي الحرب ضد الخارج من قبل أن يسقط العنف، عقيدة ومسلكù، في مجتمع كان العنف بين ركائز قيامه.
إنه مجتمع محارب، بدولته وبأفراده، بعقيدته وبمسلكه السياسي اليومي.
بالمقابل فإن انتفاء القدرة على الحرب ضد العدو، عربيù، فرضت أو هي كادت تفرض الحرب المستمرة في الداخل. لا بد من مسؤول عن الهزيمة وعن عقاب. لا بد من معاقبة الذات طالما تعذرت مواصلة القتال ضد »الآخر«.
إن الإسرائيلي المنتصر بأكثر مما تحتمل قدراته، تدفعه عقيدة الحرب التي تربّى عليها ونما في ظلالها إلى فقدان التوازن الداخلي فيأخذه جنون القوة إلى الانتحار.
والعربي المسلِّم بالهزيمة من قبل أن تقع أو من قبل أن تكتمل فتصبح قدرù يأخذه التوهم بغد المشاركة إلى إلغاء دوره وذاته اليوم وغدù!
* * *
ها هم الإسرائيليون يباشرون حربهم ضد الذات. وهي حرب لن تتوقف في المدى المنظور حتى لو تم تطويقها بالحماية الدولية والرعاية الأميركية المباشرة.
قد يترتب على الإسرائيلي أن يقتل اليهودي، أو على اليهودي أن يقتل الصهيوني. والكل مطالب بأن يتغير ويغيِّر شعاره ولغته وأسلوب عمله. وكل التصنيفات العقائدية (يمين، يسار، تطرف ديني) لا تبدل من طبيعة الصراع المتأجج بين اليهودية والصهيونية وما يمكن المجازفة بتسميته »الوطنية الإسرائيلية«. وهي موروثات لها تاريخ دام في سياق الحروب الصليبية.
هل ثمة مجال لصمود ما يسميه الكاتب الاسرائيلي ديفيد غروسمان »قيمتنا وهويتنا الجماعية كيهود ثم كإسرائيليين«؟!
وهل التماهي مع الحلفاء الشركاء الرعاة الأميركيين يعزز فعلاً »الاستقلال« أم يلغيه؟
وهل يمكن استمرار التماهي الأساسي أو الأصلي بين »كونية اليهودية« وبين »الوطنية الإسرائيلية« إلى الأبد؟!
وأين نقطة الافتراق بين فكرة المشروع وأبطال تنفيذه الذين لا بد أن يجدوا طريقهم لتحقيق ذاتهم خارجه؟!
وهل يمكن أن يستقيم منطق يقوم بأساسياته على التأرجح بين نظريتين: استحضار العرب كوحش أسطوري قادر على تدمير كل شيء، لاستنفار كل يهود العالم وحلفائهم، ثم تجاهل العرب أو إلغاء أي دور جدي لهم في أرضهم، واعتبارهم مجرد »سوق« و»يد عاملة رخيصة« وأموال هائلة تنتظر العبقرية اليهودية لاستثمارها؟!
إن الكيان الصهيوني يرتج الآن تحت ضغط الأسئلة المصيرية التي لم يسبق له أن واجهها بمثل هذه الحدة الجارحة…
وما يعنينا ألا يوفر له العرب »الإجابات« التي يحتاجها، من أرضهم أو من مستقبلهم، ومجانù كالعادة!

Exit mobile version