طلال سلمان

تزكية حوار تحقيق دولي

قرر اللبنانيون، بوعي كامل، ان يظهروا قبولهم بالنتائج التي انتهى إليها »مؤتمر الحوار الوطني« في دور انعقاده الثاني، حتى وهم يعرفون انها »مقدمة« كتاب الاتفاق العتيد وليست »متنه«، وان دورات انعقاد عديدة ستتوالى خلال الأسابيع المقبلة قبل بلوغ الخاتمة السعيدة.
فاللبنانيون الذين عاشوا تجارب مريرة، باتوا أكثر حذراً وأكثر تشككاً في نزاهة السياسيين المحترفين، ثم انهم يعرفون الآن بمزيد من الوضوح دور »الخارج« كمستثمر في احداث »الداخل« لا تحركه عواطف الاشفاق على البلد الجميل والصغير ولا يهتم إلا بمصالحه ومن يخدمها، وليس عنده ما يمنع من شطب أو إلغاء أي »ركن محلي« إذا ما صار ارتباطه به موضع ازعاج أو شغب.
ما يهم الآن ان القادة المتحاورين قد منحوهم فرصة للتنفس، وانهم قد اوقفوا حروبهم في الشارع، تاركين لهم قدراً من حرية الحركة لاستئناف أنشطتهم، في الداخل كما في دنيا العرب، ولا سيما في الدول ذات الدخل العالي أصلاً والتي جعلتها الفورة الجديدة في أسعار النفط أعظم غنى من أي تقدير… والتي يفتقد أهلها الأغنياء بأكثر مما نتصور لبنان كاستثمار واللبنانيين كخبراء ومبدعين وناصحين مميزين.
ولعل أكثر ما اراح اللبنانيين وفتح لهم نوافذ الأمل ان اللجنة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري قد أصدرت تقريرها الثالث في ظل رئيسها الجديد، القاضي المسلّم بكفاءته وحيدته سيرج برامرتز فاستقبله الجميع بارتياح.
ان التقرير الجديد قد جاء في موعده تماماً فساعد على توفير المزيد من عناصر النجاح لمؤتمر الحوار الوطني، لأنه أكد الاجماع الوطني على الاطمئنان إلى ان التحقيق في هذه الجريمة المهولة يأخذ سياقه الطبيعي لينتهي بمحكمة دولية أقر الجميع بضرورة اعتمادها، ليطمئن الناس إلى ان العدالة أخذت مجراها لتوقع على المجرمين العقوبات التي يستحقون.
ان الفصل بين التحقيق، وبالتالي المحاكمة الدولية، وبين الحوار بين الأطراف السياسية اللبنانية حول مسائل مختلف عليها من قبل جريمة الاغتيال، وتتصل بطبيعة النظام القائم والسلطة التي يرى الكثيرون انها لم تعد أو ربما لم تكن في أي يوم الابن الشرعي لاتفاق الطائف، أمر أساسي لانتظام الحوار ونجاحه في الوصول إلى النتائج المتوخاة والتي تتصل ببناء الدولة العتيدة على قاعدة من الديموقراطية المعززة للتوافق الوطني.
كانت جريمة الاغتيال قد أصابت لبنان بزلزال كاد يدمر قواعد السلامة في كيانه، فضلاً عن انه صدع »دولته« التي لم تكن بالأصل متينة البنيان.
وكانت هذه الجريمة الشنيعة التي أجمع على إدانة مرتكبيها اللبنانيون، بمختلف مواقفهم السياسية، قد سدت الأفق أمامهم، فصار كثير من السياسات مجرد ردود فعل تخاطب »الشارع« وتستثير عواطفه بإدانات مسبقة، أكثر مما تتوجه إلى عقله أو
حتى إلى مصالحه، ما خلق أجواء محتقنة كان يمكن استغلالها لتفجير مسلسل من الفتن لا ينتهي.
الآن وقد اطمأن الجميع إلى ان لجنة التحقيق الدولية تواصل عملها بتجرد، وبمهنية عالية، وان حصيلة عملها ستعرض على محكمة دولية، فإن الحوار الوطني بات يجري في نهره الطبيعي نحو الأهداف المرجوة منه.
.. وهي أهداف يأمل اللبنانيون منها ليس فقط ان ترشدهم إلى كيفية بناء دولة المستقبل، بل ان يستعيدوا معها وعبرها الدروس المستفادة من التجربة الغنية لرفيق الحريري بانياً ثم رئيساً، وقائداً عربياً كبيراً له رصيده الدولي الممتاز.
ورفيق الحريري هو الابن الشرعي لاتفاق الطائف بقدر ما هو أحد المساهمين في السعي إلى ضمان توافق اللبنانيين عليه، مع ضمان الدعم السوري في ظل رعاية عربية دولية مؤكدة.

Exit mobile version