طلال سلمان

توازن سياسي داخلي بين <المتعددة> و<اليونيفيل>

لم تكن زيارة طوني بلير مكسباً للبنان، فالمطعون في صحة تمثيله لشعبه لا يضيف كثيراً إلى مستقبليه، حتى لو كان منصبه سامياً في بلاده… فكيف إذا كان هذا الضيف على عتبة الخروج من رئاسة الحكومة ومن قيادة حزب العمال الذي ليس له من اسمه نصيب، وربما من الحياة السياسية البريطانية كافة.
وقبل سنوات طوال قال سفير بريطاني في بيروت، وقد كان على قدر كبير من عمق التجربة ومن الفهم المتميّز لأحوال لبنان والمنطقة: أنتم تخطئون حين تتعاملون معنا من خلال الماضي. لم تعد بريطانيا دولة عظمى، ولقد سلّمنا بأن مستعمراتنا قد ذهبت بها الشمس. إننا الآن ننظر إلى أنفسنا على أننا بيت خبرة زوّدته تجارب الماضي الحافل بما ينفع صنّاع المستقبل.. ولأن الولايات المتحدة الأميركية هي الأغنى والأقوى الآن، فمن الطبيعي أن نسعى إليها فتعتمدنا ونبيعها خبراتنا بالثمن .
من أسف أن لبنان ليس غنياً بما يكفي ليبيعه بلير خبراته..
لكن لبنان أقوى بكثير من أن تغيّره زيارة لبلير أو لأي مسؤول غربي أو شرقي…
كذلك فإن طبيعة التوازنات التي تحكم العلاقات بين القوى السياسية، بل وتحكم أحجامها، تستعصي على التغيير الجذري، حتى لو تكدست قرارات مجلس الأمن الدولي التي تتصدى لمشكلات البلاد من خارجها، أكواماً.
فلبنان لن يتغيّر، لا بهويته ولا بقواه الأساسية، لا بموقعه ولا بموقفه من إسرائيل حتى لو ازدحمت فوق أرضه القوى العسكرية لأوروبا جميعاً وتراصفت في بحره حاملات الطائرات والبوارج والمدمرات لتمنع تهريب… سلاح الإيمان بالأرض المقدسة، والاستعداد لافتدائها بأرواح البيوت وأهلها، رجالاً ونساءً وأطفالاً.
وتجارب التاريخ ناطقة… فلقد ازدحمت مثل هذه القوى، ولو بصيغة مختلفة وفي ظروف مختلفة، اثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف العام .1982 ولكنها لم تفد في فرض توازن سياسي غير طبيعي، مع أن ميزان القوى الداخلي كان مكسوراً في تلك اللحظة لصالح أنصار الاجتياح، ومن ثم التدخل الدولي. وهي لم تستطع أن تحمي اتفاق 17 أيار الشهير فرحلت ورحل معها، وربما قبلها.
لا ينطبق هذا التوصيف، بطبيعة الحال، على قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) التي جاءت في ربيع العام 1978 لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي (الأول؟!) للأرض اللبنانية تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الدولي الرقم …425 ولهذا لقي الجنود بالقبعات الزرقاء الترحيب من اللبنانيين كافة، مع أنها عجزت عن تنفيذ مهمتها الأصلية، وفُرض عليها أن تتعايش مع قوات الاحتلال ومع المرتزقة الذين أنشأهم ودرّبهم وأسماهم جيشاً لبنانياً ونصّب عليهم ضابطاً عميلاً قائداً، وأقام لهم دويلة في الشريط الحدودي المحتل من الأرض اللبنانية.
وكلنا يذكر كيف غدرت إسرائيل بجيش المرتزقة هذا وبقائده العميل، فتركتهم لأقدارهم بعدما انسحبت قوات احتلالها من دون أن تنذرهم، فهربوا إليها وتعرّضوا للمهانة، وكان على عائلاتهم، الزوجات والأبناء، أن يتجرعوا كأس المرارة حتى الثمالة..
ولقد انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار من العام 2000 تحت ضغط ضربات المقاومة الباسلة، وليس بقصد الاستجابة لمجلس الأمن وتنفيذ القرار 425 الذي بقي 22 سنة طويلة معلقاً في هواء الشرعية الدولية.
اليوم، يتقبّل اللبنانيون بمزيج من الترحيب والدهشة هذا التنافس بين الدول الأوروبية الكبرى (والدول الإسلامية التي استجابت لرغبات قوى عظمى ليس بينها لبنان على أي حال)
على إيفاد قوات معززة من جيوشها إلى جنوبهم… وهم يتعاملون مع هذه القوات بقبعاتها الزرقاء بود المضيف الذي يحتاج لمساعدة تعينه على مواجهة نار الاجتياح الإسرائيلي التي تجاوزت في وحشيتها أي تقدير، خصوصاً أن الهدف المعلن لقدوم هؤلاء الآلاف المؤلفة من الجنود هو مساعدة الجيش اللبناني على بسط سلطة الدولة على أرضها.
ويفترض اللبنانيون أن هذه القوات، مع الأساطيل التي تريد أن تلعب دور الملاك الحارس لبحرنا وشواطئنا، ومع الخبراء المحلفين في حراسة الحدود البرية (لا سيما تلك التي لا يعرفون أهلها ومدى تداخلهم في الحسب والنسب وفي المصاهرة والمصالح وأسباب الحياة اليومية)، لن تلعب دوراً سياسياً في لبنان، ولن تكون قوة إسناد بالسياسة وليس بالنار؟! لهذا الطرف أو ذاك من القوى السياسية المتصارعة، ديموقراطياً، فيه، ومن ثم على موقع البلاد ودورها في منطقتها العربية.
لم تأتِ هذه القوات، حتى بموجب القرار 1701 لنزع سلاح حزب الله أو لمواجهة المقاومة بالسلاح. ومؤكد أن حزب الله الذي وافق من داخل مجلس الوزراء، ثم بلسان أمينه العام، على قدوم هذه القوات لن يتعرض لها ولن يعترض دورها في التثبت من الجلاء الكامل للمحتل الإسرائيلي من بعض النقاط التي احتلها عشية القرار بوقف العمليات الحربية.. وكان واضحاً أن هدفه منها كان محاولة تعويض الأذى المعنوي في سمعته العسكرية، ومن ثم الابتزاز السياسي.
ولم تأتِ هذه القوات بالتأكيد كي تعزز طرفاً سياسياً في مواجهة طرف آخر، وليس لها شأن بموقع حزب الله وغيره من القوى في اللعبة السياسية الداخلية، بل ولا يفترض أن تكون بلادهم قد أوفدتهم لمثل هذه الغاية، وهي بالتأكيد لا تريد أن تراهم طرفاً في صراعات داخلية لبنانية… بل إن عدداً من الدول قد ترددت في إيفاد جنودها حتى تلقت الضمانات الكافية بأنه لن يكون لهم شأن في مجريات الداخل اللبناني.
وتخطئ أي قوة سياسية لبنانية إذا ما هي راهنت على الإفادة من وجود هذه القوات العسكرية الأجنبية التي ما كان يمكن أن تأتي إلا تحت علم الأمم المتحدة، لكسر التوازن السياسي القائم.
ومؤكد أن عدداً من الدول قد أظهر تردداً واضحاً حتى تلقى الضمانات الكافية، من خارج لبنان كما من داخله، بأن تجربة العام 1983 لن تتكرّر.
في هذا الأمر يفترض الإجماع: فلا أحد يريد تكرار تلك التجربة المريرة.
طلال سلمان

Exit mobile version