نزلت »الفضيحة« إلى الشارع، أمس، ولعلعت في فراغه بحراسة شركة مكافحة الشغب الممتازة التجهيز والمستعدة للانقضاض على »معكري صفو الأمن« كما على »المصطادين في الماء العكر«..
لم يكن ثمة ما يستر أو يموّه الحقيقة المفجعة: ان هذه التظاهرة المرتجلة والمدموغة بالغرض شكلت، أو يمكن أن تشكل، خاتمة كاريكاتورية مخجلة للدور المجيد للحركة النقابية في لبنان، أقله في هذه المرحلة.
خلا الشارع إلا من الأخطاء: في التوقيت، في الشعار، في الاستهداف، في الحشد، فتكشفت الخطايا الشخصية للقيادات، وافتضح أمر الهياكل والتسميات العمالية التي تتزايد أو تتوالد بوتيرة طردية مع تناقص عدد المناضلين النقابيين (التاريخيين) ومع الانخفاض الحاد في عدد المنتسبين الجدد، وفي الانشقاقات المتوالية في قلب النقابات المتهالكة لعدم تجدد الدم في خلاياها.
ليست نكتة أن بعض النقابات لا تضم من الناخبين إلا ما يعادل عدد أعضاء هيئاتها الإدارية، وأن الاتحادات ليست أكثر من مؤسسات شكلية فرضتها الأغراض أو المصالح السياسية لبعض النافذين، وأنها بعيدة عن تمثيل »الطبقة العاملة« بأي مفهوم معتمد سواء من »اليسار« ذي التراث العريق في هذا المجال، أو من »اليمين« المتحرر من الإيديولوجيا والمعتمد من طرف أرباب العمل كبديل مدجَّن لأولئك »المتطرفين« و»المخربين« الذين قد يؤثرون بمطالبهم المتزايدة على دورة رأس المال وأرباحه المرتجاة.
أما النكتة السوداء فهي دعوة مثل هذه »الحركة النقابية« التي أعادت تركيبها المساومات السياسية، بعيداً عن مصالح العمال ومطالبهم، في السنوات القليلة الماضية، وفي أحضان أهل السلطة (السابقة واللاحقة)، إلى التظاهر خارج »السياسة«، وبعيداً عن حسابات القوى الحزبية والسياسية الأساسية التي لا ترى مبرراً لتحدي العهد وهو في شهره السادس بعد، وعلى أرض الضائقة المعيشية المعبّرة عن أزمة اقتصادية حادة ليس هو المسؤول عنها وإن كان هو المطالب بعلاجها وتوفير المخرج الصحي منها.
في بلاد الناس كان خبر التظاهرة المسلوقة او الجهيض سيتأخر ليسبقه خبر الاستقالة الجماعية للذين دعوا إليها وحددوا توقيتها من دون أن يوفروا لها فرصة النجاح، إن لم يكن في تحقيق المطالب فأقله في التعبير عنها بقوة الحركة »الشعبية« التي تحمل شعاراتها والتي يفترض أن ينتظم فيها كل اصحاب المصلحة في طرح المطالب وفرضها على جدول اعمال الحكم.
لقد عزلت القيادة النقابية نفسها عن جمهورها الطبيعي، وأخذها الغرور الى افتراض أنها القيادة السياسية للبلاد، وأن الشعب لا ينتظر لكي يثور غير أن تحدد له ساعة الصفر، فكانت النتيجة أن رجال الشرطة المواكبين تجاوزوا بأعدادهم المتظاهرين القلة الذين أخذ معظمهم الحرج والإخلاص للمبدأ الى الشارع، وليس الاقتناع بسلامة التحرك أو بجدواه.
على أن المهزلة بلغت ذروتها عندما لعلعت الأصوات بإدانة العهد الماضي وحكوماته بينما هي تتوجه بمطالبها الى الحكومة الأولى لهذا العهد معترضة على ما فرضته من ضرائب ورسوم جديدة.
فهل جاءت التظاهرة متأخرة اكثر مما يجب عن موعد المواجهة مع العهد الماضي، ربما بسبب المساومات معه التي وفرت لهذه القيادة أن تتربع على رأس الحركة النقابية، أم هي جاءت مبكرة جداً عن الموعد المحتمل للاعتراض على الإجراءات التي باشرها هذا العهد والتي جاءت تحمل الكثير من ردة الفعل الشخصية على »عزل« رئيس الاتحاد العمالي العام من رئاسة مجلس إدارة الضمان… ديموقراطياً!
من أعطى أخذ، وعلى من أخذ أن يعطي…
على أن »الفضيحة« تعكس في الجانب الجاد منها النقص الفاضح في حيوية الحياة السياسية، وفي انشغال الأحزاب (عموماً) بنفسها وفي ابتعادها عن العمل المطلبي واستطراداً عن الاهتمام ورعاية الحركة النقابية…
بل لعل الأحزاب هي المسؤول الرقم واحد عن النهاية البائسة، أقله مرحلياً، لهذه الحركة النقابية ذات التاريخ النضالي المشرف، بالمعنى الوطني والقومي كما بالمعنى العمالي والمطلبي.]]