بدّلت عاديات الزمان تركيا في كل أمرها، إلا سياستها »العربية« فهي تكاد تكون ثابتة لا تتحول ولا تتبدل بتبدل الحكام (وهم يجيئون دائمù من مصدر واحد): انها مع خط »الانحراف« العربي، وهي مع الحكام المجافين لعواطف شعوبهم وتطلعاتها، وهي إجمالاً مع المتقدم في التحاقه بالغرب من العرب بحيث لا يتبقى من عروبته إلا سمرة البشرة وبياض الكوفية!!
الأطرف أن تركيا (المعاصرة) ضد »العثمانيين« من العرب، الذين ما زالوا يحنون إلى أمجاد الخلافة والسلطنة ودار الإسلام في اسطنبول، بقدر ما هي ضد »العلمانيين« العرب من خريجي الأحزاب القومية والتقدمية.
لكأنه موقف عنصري مستعص على التبدل أو التطوير!
ربما من هذا المنطلق تقف تركيا مع إسرائيل (ومنذ إقامتها على أرض فلسطين) ضد مجموع العرب، »تحرريين« و»منحرفين«، »استقلاليين« و»ملتحقين«.
لم تعطِ تركيا أي عربي، حتى أولئك الذين شاركوها تغربها ودخلوا معها في أحلاف سياسية وعسكرية، وارتبطوا معها بالمعاهدات (البريطانية بداية ثم الأميركية)، امتيازù من أي نوع، ولا أحلت أقربهم إلى سياستها موقعù ممتازù في خريطة مصالحها، ولا سمحت بمجرد علاقة طبيعية يفرضها »حسن الجوار«،
وبالمقابل فتحت تركيا للإسرائيليين سرايا الحكم وقصوره والسماوات والبحار والأسرار العسكرية والمصالح الاستراتيجية، ناهيك بقلوب القساة من الأتاتوركيين!
ولم يترك حكام أنقرة أمرù يؤذي العرب في صميم حياتهم، أو يؤثر بالضرر على مستقبلهم، أو يضعفهم في مواجهة »عدوهم«، إلا فعلوه.
وفي حالات كثيرة بدا حكام أنقرة وكأنهم يعاقبون تركيا ذاتها، في تاريخها وفي موقعها الأصلي، وفي دورها الحقيقي، أكثر مما يعاقبون العرب.
وهم لا ينفكون يستفزون دول الجوار، ربما ليوفروا لانفسهم عذر الالتحاق والتبعية للغرب بذريعة انهم يعيشون وسط بحر من الاعداء، عربù ومسلمين وغلاة الارثوذكس من المسيحيين.
وعلى امتداد حدودهم الطويلة ليس لحكام تركيا »صديق«، بل ان العلاقات مع كل الجيران تقف دائمù على شفا القطيعة، واحيانù على شفا الحرب بالسلاح.
وحدها اسرائيل صديق الاتاتوركيين في هذه المنطقة ذات الاهمية الاستثنائية. ومع ان اسرائيل تكاد تكون الأقوى، فهي تظل »الطارئة« على المنطقة، والمفروضة عليها فرضù، والمعادية لاهلها حتى فرضت عليهم »مسالمتها«.
ان مشكلات تركيا في داخلها لا في خارجها، ولن ينفع في حلها هذا الادعاء المستهلك والممجوج بأن الخارج، والخارج العربي تحديدù، والسوري بالذات، هو السبب.
فلا الاكراد طارئون على تركيا، ولا ملايين الملايين من المظلومين المحرومين ابسط حقوقهم كبشر وفدوا في غفلة عين من الخارج، ولا الافتراق بين الهوية وبين مصلحة الحكم مشكلة يمكن ان يعالجها »الغريب«، او يمكن ان تحسمها التعبئة العسكرية او قطع المياه عن الأرض السورية أو الأرض العراقية.
ان الاتراك مختلفون في ما بينهم، ومواضيع الخلاف جوهرية وحادة ودائمة ولا يحلها الزمن أو الاهمال أو القمع الوحشي.
ومستحيل ان تتقدم تركيا وان تلعب دورù قياديù في المنطقة طالما انها تعيش دائمù في ظلال حرب أهلية قد تشتد نارها فترة وقد تخبو فترة أخرى، ولكنها لا تنطفئ أبدù، ومهما تكدس لدى المؤسسة العسكرية الحاكمة من حديث السلاح ومن الظروف المؤاتية لابادة »المتمردين« الذين يطالبون بالحد الأدنى من حقوق الانسان، فوق أرضهم وفي بلادهم.
المدافع لا تقذف خبزù على الفقراء،
والطائرات لا تلقي ارزù وسمنù وأدامù للجائعين،
ومناخ الحرب الاهلية، حتى لو حكمه منطق »العرق الممتاز«، لا بد من ان ينعكس على مجمل الحياة السياسية فيزيدها اضطرابا وتمزقا وعجزا عن العثور على الحل البسيط والذي يعلن عن نفسه في كل لحظة فلا يراه »القادة« ممن اعمتهم شهوة السلطة واضلتهم احقادهم عن مصالح بلادهم الطبيعية.
ان مشكلات تركيا تركية مائة في المائة، بمن في ذلك »اوجلان« والحزب الديموقراطي الكردستاني،
والحلول داخل تركيا وليست في خارجها، وهي »سياسية« وليست »عسكرية« ولن يقرب موعدها هذا الحلف الجهنمي الذي تحرص المؤسسة العسكرية التركية على توطيده مع اسرائيل، ذاهبة في عدائها مع العرب الى حيث لا يمكن الرجوع.
لماذا تختار تركيا ان تذهب الى العداء المطلق مع العرب بينما تدعي اسرائيل انها تحاول الوصول الى »سلام ما« معهم؟!
ان تركيا تقتتل، ان تركيا تحارب ذاتها، ولم تبق من علاقاتها مع محيطها العربي والاسلامي وحتى المسيحي ما يمنع او يوقف اندفاعها نحو الانتحار.
اللهم الا اذا التفت الأتراك الى الداخل فتصالحوا مع ذاتهم ومع حقائق حياتهم.
والتغيير آت، في تركيا، لا محالة، حتى لو نادى حكامها بشمعون بيريز سلطانا جديدا!!