طلال سلمان

تقدم أوراق اعتمادنا

أعترف أنني عندما قرأت عبارة «صوت من لا صوت لهم» لأول مرة قبل أربعين عاماً في رأس الصفحة الأخيرة من جريدة «السفير»، شعرت أنها تعنيني شخصياً لسببين؛ الأول هو أنني أنحدر من طبقة اجتماعية مسروقة الصوت على مدى قرون، والثاني هو أن ولادة «السفير» جاءت بعد بضعة أشعر من حرب تشرين التحريرية التي أنعشت كبريائي بعد أن مَعَسَهُ بسطار جندي الاحتلال الصهيوني في هزيمة حزيران 1967.
أذكر تلك اللحظة جيداً كما لو أنها جرت بالأمس. كان ذلك في أحد أيام ربيع 1974، عندما دخل الشاعر زهير غانم إلى مقصف الآزروني بجامعة دمشق متأبطاً مصنف ورق «الكانسون « الذي يرسم عليه وجوه الصبايا الجميلات وأول عدد أراه من «السفير». سألته عما إذا كانت هذه جريدة جديدة، فأبدى اندهاشه من تخلفي، وناولني الجريدة مستمتعاً بتفوقه الذي لا شك فيه كما لو أنه سفير فوق العادة يقدم أوراق اعتماده! كان زهير هو أكثرنا تمدناً، إذ كنا مجموعة فتيان ريفيين بسطاء، نحبو في عالم القراءة والكتابة، هكذا بدأت علاقتي بـ«السفير». والآن لا يسعني إلا أن أضحك من نفسي عندما أتذكر أنني، طوال أشهر عديدة ، كنت أتعمد أن أخبئ الصحف الأخرى التي أشتريها داخل «السفير»، كما لو أن «السفير» هي بمثابة شهادة ذوق وثقافة لمن يحملها!
تعلمون أن كلمة «جريدة» لا توحي بالثقة في ثقافتنا الشعبية، فعندما يريد أحدهم أن يشكك بأمر ما يصفه بأنه «كلام جرائد» والعجيب هو أن هذه القناعة كانت ولا تزال منتشرة حتى في الأرياف التي لا توزع فيها الجرائد! وقد كان المفكر العربي عبد الله القصيمي الثائر على الفكر الوهابي، شديد الحدة في انتقاده الصحافة العربية إذ قال في كتابه «صحراء بلا أبعاد»: «الصحافة في البلدان العربية غزو للإنسان، غزو لذكائه، لأخلاقه، إنها لا تفهم الحقيقة، لا تحترمها ولا تبحث عنها، إنها لا تحاول أن تدافع عنها، أن تقف معها، أن تدافع عن شرفها، إنها فى كل حالاتها بلا شرف، إنها ليست فساداً فقط، إنها غباء، جهاله، افتضاح …الخ» كما تطرف القصيبي في هجاء الصحافيين وقذفهم بأسوأ الصفات، إذ صاح شاكياً: «كم تعذبني هذه الصحافة، كم أخاف منها. ما أضيق وأخطر الطريق الذي يسير فيه الصحافي العربي الذي يرفض أن يكون ملوثاً أو جباناً أو ضالاً أو بليداً، ما أضيق وأكرب الطريق الذي يسير فيه الصحافي النظيف، إن الكاتب العربي يطيع كل الأوامر، إنه يخاف أن يعصي أو يخالف، إنه يعبد كل الأصنام في كل المحاريب، إنه يتحول الى داعية خوف وطاعة، إنه يعلّم الجماهير كيف تطيع وتخاف، إنه يسوغ لها ذلك ويدعوها اليه، إنه رسول مضاد لمعنى كل رسالة، إنه يلوث السوق أكثر من أن يحاول تنظيفها، إنه يعارض حيث تكون المعارضه مَغنَماً لا مخاطرة، إن المعارضة عنده دائما نوع من البحث عن الربح لا عن التضحية، ليست المعارضة عنده صراعا مع الخطر، إنها مغازلة ومساومة، ومتاجرة وإعلان».

التحدي الكبير

أصارحكم أنني سمحت لنفسي بإيراد هجوم القصيمي الكاسح والمغالي على الصحافة العربية، كي أبرز لكم حجم العناء والجهد الذي يتطلبه إصدار جريدة ذات مصداقية بعد عقود بل قرون من الصحافة الرديئة وسوء الفهم. وهدفي من ذلك إبراز حجم التحدي الكبير الذي واجهته «السفير» خلال العقود الأربعة الماضية من تاريخها.
لقد أدرك الإعلامي طلال سلمان، صاحب السفير ومؤسسها، منذ البداية أنه لا يستطيع أن يتحرر من ذلك الميراث الثقيل من سوء فهم الصحافة، إلا إذا ربط اسم جريدته بأنظف وأبهى ما في الفكر العربي المعاصر من أسماء، ولهذا كان من الطبيعي أن يلح على سعد الله ونوس كي يشرف على القسم الثقافي، وأن يحرص على تكون «السفير» المنبر الأول لأنظف وأبهى الكتاب والمفكرين في الثقافة العربية المعاصرة.
صحيح أن سعد الله ونوس درس الصحافة في جامعة القاهرة وأسس عقب عودته عدة مطبوعات، منها مجلة «أسامة» ومجلة «الحياة المسرحية» والكتاب الدوري «قضايا وشهادات»، إلا أنه كان يطمح دائماً أن يكرس وقته لخدمة صوته الأقوى أي المسرح. لكنه، رغم ذلك، وافق على أن يكون رئيس القسم الثقافي في «السفير» إيماناً منه بأهمية هذه الجريدة كمشروع ثقافي وسياسي عربي.
إنه لمن دواعي فخري أن سعد الله طلب مني، عندما كان رئيساً للقسم الثقافي في «السفير» أن أتعاون معه في تغطية النشاطات الثقافية التي تجري في دمشق، وهكذا كثر ترددي، خلال تلك المرحلة، على منزله في مساكن برزة مسبقة الصنع، وازددت انجذاباً إلى شخصه العذب، وعقله النير، وقلبه الدافئ البسيط الخجول! وقد دام تعاوننا إلى أن ضاق ذرعاً بحياة الترحال على الدروب الجانبية التي فتحتها الحرب الأهلية بين دمشق وبيروت، فقرر العودة إلى البيت، بشكل نهائي، كي يتفرغ لمشروعه المسرحي!
لكن رغم ذلك أستطيع أن أشهد بأن سعد الله ونوس ظل طوال حياته يعتبر نفسه من أسرة السفير، حتى بعد أن غادرها، والدليل على ذلك هو حرصه على أن يكون الظهور الأول لكل نصوصه المسرحية على صفحات السفير.
أحسب أننا لو سألنا أخصب الناس خيالاً، عشية انطلاق جريدة السفير، في الثلاثاء الأخير من آذار 1974، كيف ستكون وسائل الاتصال بعد أربعة عقود من الزمن، لعجز خياله عن تصور ما صرنا إليه، فوسائل الاتصال تتطور وفق متوالية هندسية بحيث أن القدرة التخزينية لهاتفي المحمول باتت أكبر بألفي مرة من القدرة التخزينية لأول حاسب منزلي ضخم اقتنيته قبل حوالي عقدين.
في عيد الميلاد الأربعين لصحيفة السفير، لا بد لنا من أن نعترف أنه حصل انزياح خطير في المشهد الثقافي حلت فيه ثقافة الصورة محل ثقافة الكلمة مما يهدد مستقبل الصحافة كمهنه لتبادل الافكار ويغير معناها وطبيعتها، فها هي ثورة تكنولوجيا المعلومات تضعنا على مشارف عصر صحافة المواطن التي تحوِّل كل فرد إلى منتج للمعلومة ومستهلك لها، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام حقبة جديدة من الصعب إن لم يكن من المستحيل التنبؤ بآفاقها.
لقد أدرك القائمون على السفير منذ إطلاقها كمشروع أنّ غاية العمل الصّحافي الحقيقي هي خدمة المجتمع وتحقيق مصلحته.

الصدق

يحلو لبعض الإعلاميين أن يصفوا الصحافة بأنها مرآة صافية تعكس واقع المجتمع في أوضح صورة لتضع ذلك الواقع نصب أعين ذوي القرار الذين يمكن أن يصلحوه. صحيح أنه ثمة قاسم مشترك بين الصحافة والمرآة، هو الصدق، لكن شتان بين صدق الصحافة وصدق المرآة. فالمرآة تعكس السطوح الخارجية للأشياء ، أما الصحافة الحقة فتعكس الحقائق الخبيئة التي تعمى عنها المرايا وتنطق بما يسكت عنه المجتمع. فالصحافة، حتى عندما تكذب تعبر عن حقيقة مجتمعها بصدق. لأن كذب الصحافة يعبر بشكل صادق عن مدى تفشي الكذب في المجتمع.
أومن أنه ثمة قاعدة كلية الصحة في عالم الصحافة التقليدية «اقرأ الافتتاحية لتعرف من هو السيد»، فالصحافة الحرة بالمعنى المطلق للكلمة هي مثل العنقاء يتكلم عنها الجميع من دون أن يراها أحد، ففي الغرب يقولون إن «حرية الصحافة هي أن تكتب ما لا يفكر به مالك الجريدة، شريطة ألا تزعج المعلنين». ولعل أبلغ سخرية من حرية الصحافة قولهم: «الفقير يشتري الجريدة، أما الغني فيقوم بشراء رئيس التحرير». لكن إيماني بنسبية الحرية التي تتمتع بها الصحافة، لا يعني أن الصحافيين يتشابهون. ففي عالم الصحافة يوجد نوعان أساسيان من الصحافيين، صحافي يهتم بما يهتم به القراء، وصحافي يسعى لأن يدفع القراء للاهتمام بالقضايا التي يهتم هو بها. ولا شك أن كل الكبار في تاريخ الصحافة كانوا ولا يزالون من النوع الثاني.
لست أريد أن أجامل «السفير» فأنا أتفق مع صاحبة «نيويورك تايمز» أيام ووتر غيت إذ قالت: «إن الجريدة التي تجامل نفسها قد تنحدر بحيث لا تجد قارئاً واحداً يجاملها». صحيح أن السفير لم تغير القضية التي كرست نفسها لخدمتها منذ البداية. لكنها ظلت دائماً تبذل جهدها لتجديد أدواتها، بحيث أنها كانت ولا تزال من أبرز المنافسين في دنيا العرب على شهادة الجودة الصحافية طوال أربعة عقود متعاقبة.
قبل بضع سنوات كتبت في دفتر ملاحظاتي: «قلت يوماً: أيها الصحافي مجدك يوم، وعارك الى الأبد! والآن أقول: يوم الحقيقة، أبداً». تحية للسفير في يوم حقيقتها.
(كاتب سوري)

حسن م. يوسف

Exit mobile version