طلال سلمان

تجربة طلال سلمان أو الوجه الآخر للبنان المتنوع في السفير

إذا كان لا بد من اختصار تجربة “لبنان الكبير”، كما أراده مؤسسوه، وكما أظهرت التجربة بإيجابياتها وسلبياتها بعد أكثر من مئة عام على التأسيس، فهي التنوع والحريات ووجود مساحة واسعة للرأي المختلف، ولصراع الأفكار والعقائد والنظرات للوطن والمجتمع وعلاقات لبنان بمحيطه.

وإذا كان هناك من فخرٍ لهذا اللبنان، فهو أن أي قوة لم تستطع قتل أو خنق هذه المساحة الواسعة من الحرية. حتى لو ابتُذل معناها كما يحصل في “العهر الإعلامي” في الأعوام الأخيرة من فصول “سيطرة التفاهة”.

هذا “اللبنان” يهضم الجميع، ومن دونه لا حرية للعرب ولا دورَ مشعّاً للبنان في محيطه، نهضوياً كما كان أولئك الرهبان الذين حفظوا اللغة العربية من التتريك وجعلوا من أديارهم منطلقاً لأعظم نهضة فكرية وثقافية في الشرق.

هذا “اللبنان” هو المنطلق لقراءة تجربة طلال سلمان، الذي وإن اختارَ طريقاً فكرية وسياسية غلبّت القومية العربية على الإتجاه الكياني اللبناني، وجعلها منطلقاً لتجربته الصحفية، فإن مسيرته هذه، هي تأكيد للمنطلقات اللبنانية ولما أريدَ للبنان من دور يتخطى منطق “المركانتيلية” التجارية.

هذا “اللبنان” هو الذي سمح لقامات فكرية وصحفية وإعلامية بالبروز والتعبير عن هذا الدور الطليعي للبنان، من ميشال زكور في “المعرض” إلى جبران تويني الجد وغسان التويني الجدلي في “النهار” تعبيراً عن البعد اللبناني الكياني و”المسيحي”، وصولاً إلى “الحياة” في مواجهة كامل مروة للإتجاه الناصري.

هذا “اللبنان” هو الذي سمح لطلال سلمان لاحقاً في “السفير” أن يحمل معه تجربة للبنان مختلف، أو الوجه الآخر للبنان المتعدد بين اليمين واليسار، بين الكيانية اللبنانية والقومية العربية، بين النظام الإقتصادي “الحر” وبين النظام الذي تتدخل فيه الدولة والمعروف ب”الإشتراكي”. حمل معه التجربة والإنتماءات السياسية، والدفاع عن المنظمات الفلسطينية و”الحركة الوطنية”، ومعها أيضاً الخصومات والصراعات ضد فريق “الجبهة اللبنانية” الذي كان يدافع عن لبنان آخر، ومختلف… حملَ معه قناعاته ولكن أيضاً تلك التي أوصلته إلى محاولة الإغتيال في العام 1984 الذي حفل بواحدٍ من أكثر فصول الحرب اللبنانية في الصراع وتغيّر موازين القوى وترسيم خطوط التماس.

هذه “السفير” بانتماءاتها، كانت أيضاً مساحة للتفاعل بين الآراء المختلفة، وفسحة لنخب لبنانية وعربية تعبّر عن آراءها واقتناعاتها في أكثر القضايا جدلية في لبنان والعالم العربي، من العلاقة بين الدين والدولة إلى الأنظمة السياسية والإقتصادية، وعبّرت عن هذا التنوع ولو بغلبة انحيازها وحساسيتها “القومية العربية”.

هذه الصراعات والإنحيازات التي حملتها “السفير” حتى آخر دقيقة قبل إقفالها، لا تحجب بغض النظر عن مدى الإتفاق السياسي من عدمه، وعن هجوماتها القاسية في أحيان عدة على أفرقاء لا يشاطرونها الإنتماء الفكري والسياسي، أنها كانت في المقابل تعبيراً عن مساحة الحرية والتنوع اللبنانيين.

في التسعينات كانت في اصطفاف كبير داعم للسيطرة السورية نواجهه، لكن ذلك لم يمنعها من خلق مساحة حرة تحت صفحة “شباب” المشاكِسة بإدارة خالد صاغية، أفسحت لأقلام عونية -بينهم كاتب هذه السطور وزياد نجار وعدد آخر من المناضلين- وقواتية ويسارية معارضة، أن تطرح رأيها في الوضع اللبناني والعلاقات مع سوريا والداخل اللبناني، بكل الراديكالية التي كنا نحملها. كتبنا عن رأينا في الإنسحاب السوري وانتخابات المتن الفرعية مع غبريال المر ومخيم بعقلين وعن بدايات تجاربنا الحزبية والسياسية، وعن رفضنا لدمج فروع الجامعة اللبنانية، فشكّلت هذه الصفحة مع “نهار الشباب” إحدى فسحاتنا للتنفس في بيروت التي أرادوا خنق معناها وقمع صوتها في الإختلاف…

وفي الحرب السورية ضمن تداعيات ما عُرف ب”الإنتفاضات العربية”، شكلت “السفير” مرآة كبرى لصراعات المجتمعات العربية والأنظمة، فعكست لا رأيها السياسي فحسب، بل واقع الصراعات الداخلية السورية، واللعبة الدولية الكبرى مع معلومات “مانشيتاتها” ولا سيما ما يحضر في خاطري عن رواية إقناع قاسم سليماني فلاديمير بوتين بخيارات التدخل العسكري في الميدان السوري.

البشر عادة ما يفضلون رواياتهم، لكن الناقصة. فمن دون هذا النقصان لا بناء لسردياتهم الخاصة عن الواقع وحتى عن الأوهام الضرورية.

ورواية طلال سلمان، مع “السفير”، هي إحدى جوانب الرواية عن بلد الحرية والإنفتاح والتنوع…

*رئيس تحرير tayyar.org

موقع تيار دوت اورغ

Exit mobile version