»السلام« تجارة أيضù، بل لعله تجارة أولاً وأخيرù في العين الإسرائيلية،
ولقد كانت »الحرب«، أو بالدقة »حالة الحرب« سدù منيعù في وجه »العبقرية الإسرائيلية« وسعيها الحثيث لوضع اليد على »المال العربي« واجتياح سوق الاستهلاك العربية، وما أوسعها وما أكثر ملايينها التي لا تصنع شيئù وتستورد كل شيء!
لذا كانت الحرب الإسرائيلية لرفع المقاطعة العربية أعنف وأشرس، وجبهتها تمتد لتشمل الغرب كله، باعتبار أن المقاطعة تمس بعض مصالحه، خصوصù وأن »حالة الحرب« المجمّدة أصلاً انتفى احتمال انفجارها بعد خروج مصر من ميدان الصراع، وبات التمسك بها طقسù أكثر منه سياسة، ثم أخذ يتحوَّل إلى عبء أو قيد يضيق به المستعجلون المتلهفون إلى »أي سلام« يوفّر لهم الدعة والاستمتاع بأموال الطفرة النفطية وعمولاتها الهائلة!
وها هي إسرائيل تكاد تنجح، وتحت الرعاية الأميركية دائمù، في تحويل المقاطعة إلى سلاح ضد المتمسكين بها، فيصير رافضو التوقيع على اتفاقات الاذعان تحت الحصار ويُستدرج رفاق سلاحهم القدامى ليساهموا في تطويقهم وعزلهم.
هذه أبرز استهدافات اللقاء الخماسي الذي انتهى أمس في طابا، والذي جمع وزراء التجارة في أطراف »حلف السلام« بقيادة وزير التجارة الأميركي رون براون، ليكون حلقة وسيطة بين المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي نظّم دورته الأولى الحسن الثاني لحساب إسرائيل في الدار البيضاء، والذي عُهد بتنظيم دورته الثانية إلى الملك حسين وفي عمان.
»السلام« في اليد الإسرائيلية سلاح هجوم فتاك،
وحصيلة التواقيع العربية تشكّل التجسيد العملي للحلم الإسرائيلي بإقامة الشرق الأوسط الجديد، تحت رايتها ولخدمة طموحاتها المعلنة.
والاجتماع الرباعي في القاهرة لا يمكن أن يتحوّل إلى مشروع »مؤسسة«، ولو انعقد على مستوى القمة، إلا إذا تبنّته واعتمدته واشنطن التي لم تتأخر كثيرù في إعلانه »مؤسسة« بالمشاركة في أهم استهدافاته: فتح المنطقة العربية أمام إسرائيل، ثم في استضافته في واشنطن (الأحد المقبل) لتحصينه سياسيù برعايتها المباشرة.
الطريف أن هذا اللقاء النواة يعقد في ظل واقعتين ملفتتين:
} الأولى ان إسرائيل التي تطالب وتكاد تحقق فتح الأبواب العربية المغلقة أمام تجارتها ما تزال تُخضع الفلسطينيين تحت احتلالها لحصارها وتقيم من حولهم ستارù من حديد ونار، سواء أكانوا في »سجن« غزة الكبير، أم في مختلف أنحاء السجن الأكبر، أي الضفة الغربية بما فيها القدس العربية، وترفض قبولهم حتى كعمال أو مجرد مستهلكين!
} والثانية ان الولايات المتحدة الأميركية ما تزال تحاصر لبنان وتمنع رعاياها من القدوم إليه، وتعامله كمصدر للوباء، ولا تسمح لشركاتها أو مصارفها بالتعامل مباشرة مع أهله، ولا هي تسمح لطائرة لبنانية بأن تهبط في مطاراتها… ومؤكَّد أن »اللجنة الأمنية« التي أوفدتها بيروت »لتشرح فلا تقنع« قد تجشّمت عناءً ثقيلاً للوصول إلى مفاوضها الأميركي في واشنطن،
إلى جانب هذا فإن الولايات المتحدة الأميركية ما تزال تدرج اسم سوريا على قائمة الارهاب، برغم لقاءات القمة في جنيف ثم في دمشق، وبرغم الاشادة الأميركية المتكررة بالدور السوري البنّاء في ضمان استمرار العملية السلمية،
هذا من دون أن ننسى حصار التجويع المستمر فرضه على ليبيا وشعبها،
ناهيك بحصار التجويع الدائم (مع صدام حسين) على شعب العراق.
من القاهرة إلى طابا، ومن طابا إلى واشنطن، ومن الدار البيضاء إلى عمان ثم إلى…
لكن شعب مصر لا يلتفت كثيرù إلى مقررات هذه المؤتمرات الخطيرة، وهو مستمر في مقاطعته للبضائع الإسرائيلية برغم التطبيع المفروض بالأمر، ويعامل مَن يزورها وكأنه شيطان رجيم..
والأردنيون يخرجون من المطاعم التي يدخلها سياح إسرائيليون (برتبة نقيب فما فوق) في عمان (لأن السياح من رتب أدنى يجيئون بزوادتهم ومرطباتهم معهم)، ويضربون الفضوليين الاسرائيليين إذا هم اقتحموا عرسù في فندق.
أما الفلسطيني فهو يفجر نفسه في الإسرائيليين احتفاءً بسلامهم القاهر،
وفي ظل »حلف السلام« هذا الذي يكاد يغرق في بحر »التأييد« الشعبي العريض، ستظل »المؤسسة« التي تريد واشنطن إقامتها بين الموقّعين للإسرائيلي على »حقه« في اجتياح المنطقة، مجرد مشروع وهمي يؤكد استمرار الصراع برغم تواقيع الواقعين.