أمكن للعرب، ومعظم شعوب العالم، أخيراً، أن يناموا ليلهم خارج الكابوس.
لقد انشقت عتمة بغداد، أمس، عن أخبار الوصول الى اتفاق بين كوفي أنان وصدام حسين، وتراجعت أخبار الحشد الحربي من دون أن تتوقف عن الانهمار وكأنها مطر شباط.
لا تهم التفاصيل، ستُعرف غداً، المهم أن الناس تخفّفوا من ضغط التوتر النفسي الشديد ومن التأثيرات المدمِّرة للأعصاب لأفلام الرعب التي أنتجتها وعمّمتها هوليوود السياسية في واشنطن، وأعطتها اسماً له صداه الموجع هو »رعد الصحراء«،
كأنما تريدنا أن نبقى دائماً في إسار »عاصفة الصحراء« التي دمَّرت إرادة أمة وقدراتها، نتيجة مواجهة الخطأ بالخطأ، ومن قبل أن تتنبّه لما يدبَّر لها في حاضرها ومستقبلها وشَغَلَها »المتسبِّب« عن »المستفيد« فضيَّعت نفسها بينهما.
ليس هذا موضوعنا، بأي حال،
كذلك فليس موضوعنا طبيعة الاتفاق الذي سيعلنه في بغداد، صباح اليوم، أمين عام الأمم المتحدة، كأي »إنجاز تاريخي«، كإعلان انتهاء الحرب العالمية الثانية، مثلاً، أو وقف حرب فيتنام، أو سقوط جدار برلين، أو الموت المفجع لليدي ديانا.
لغيرنا أن يتفنّن فيبتدع لهذا الاتفاق التسميات اللائقة به، من نوع »القصور مقابل التفتيش« أو »النظام مقابل الالتزام بالوصاية الدولية« أو »صدام مقابل الطعام«،
المهم أن هذا الاتفاق قد أخرج الناس من قفص الكارثة التي كانت سجنتهم فيها المناورات المتبادلة فباتوا أسراها، لا يستطيعون التفكير بغدهم في ظلها… فاستبعدوا غدهم، أو لعلهم قد أرجأوه، لحمايته من آثارها المدمرة، على مختلف المستويات، والمستوى المعنوي بداية وأساساً.
أما وقد هدأت الأعصاب نسبياً فقد بات بالإمكان رصد بعض الظواهر الملفتة، بل المضيئة، التي طغت على سطح الأحداث، في الأسابيع الأخيرة، فأحيت الأمل في النفوس ومنها:
أولاً حققت الولايات المتحدة الأميركية فوزا ساحقا ومن طبيعة عالمية شاملة على الرئيس العراقي صدام حسين، فأثبتت أنها »مكروهة« أكثر منه، بما لا يقاس، وأنها أكثر منه عداء للبشر وعشقا للحرب والضحايا والدمار والجثث والحطام وجنازات الأطفال ودموع الأرامل والثكالى والآباء المفجوعين بأسرهم!
ثانياً في فترة قياسية هي الفاصل بين فضيحتين جنسيتين للرئيس الأميركي بيل كلينتون، استطاعت الادارة الأميركية من خلال فرضها مناخ الحرب وصور الحشد ذي الطاقة التدميرية الهائلة أن تستعيد لنفسها وأن تعيد الى أذهان العالم صورة »الأميركي البشع«، الذي يحمل الموت إلى بلاد الآخرين، تحت لافتة الحرية، والذي يقضي »بأسلحته النظيفة« على أسباب الحياة في أي أرض تحلّق فوقها طائراته أو تخترقها صواريخه التي لا تخطئ!
صورة »الأميركي البشع« تملأ الآن أرجاء الكون،
ثالثاً انكسر حاجز الخوف، وخرجت الجماهير، مترددة في البداية، متهيِّبة، ثم متحدية مع اشتداد الخطر، تحرق الأعلام الأميركية، تهتف ضد الحرب وضد »إله الحرب« الهارب من فضائحه الشخصية إلى القتل الجماعي.
لم يقتصر الأمر على الأقطار العربية، بل لعل أوروبا قد سبقت إلى هذا، ثم ان الأميركيين أنفسهم، سواء عبر اللقاءات المباشرة التي تمت مع الوزراء من مسوِّقي الحرب، أم من خلال استطلاعات الرأي، أم من خلال ما كتبه بعض بعيدي النظر منهم، كلهم قد جهروا باعتراضهم ورفضوا أن يلبسوا الكاكي وأن يحملوا »أسلحة الدمار الخاص والمحدد والمحدود« ليذهبوا إلى بلد بعينه، هو العراق، فيقتلوا بعض شعبه ويهدموا منشآته، لأنهم قد اختلفوا بعد اتفاق مع صدام حسين!
رابعاً وعلى المستوى الرسمي، ارتفعت شعبية الرؤساء الغربيين الذين اعترضوا على »الهيمنة الأميركية« وعلى »التعنت الأميركي« وعلى »سياسة الفرض الأميركي« وعلى »التفرد الأميركي في قرارات من شأنها أن تمس السلام العالمي وأمن الشعوب«… وهذا الرد سيكون له ما بعده، إن على مستوى الاتحاد الأوروبي، أو على مستوى »مستقبل الدور الروسي« في العالم، أو حتى الشعوب المستضعفة كالعرب.
صحيح أن الأكثرية الساحقة من هذه الحكومات قد أعلنت رضوخها للقرار الأميركي، علناً، ولكنها ظلت معارضة للحرب ومشجعة لكل المحاولات الهادفة إلى الوصول إلى اتفاق ما يمنع وقوعها، من دون أن يعني موقفها، بأي حال، الموافقة على سياسات صدام حسين،
المفارقة، ان العتو والعنجهية والتسلط والاستكبار والتفرد وبطر السلطة والافتراض بامتلاك الحق الإلهي… ان كل هذه الصفات الملعونة التي كان يتهم بها صدام حسين، قد تجلت فعليا في المسلك الأميركي،
وهنا أيضا حققت الادارة الأميركية نصراً ساحقاً على صدام حسين سيفرد له التاريخ صفحات مطولة!
خامساً على المستوى العربي، استعاد الشارع بعضاً من روحه، وبعضاً من اعتباره، وظهر بمستوى من النضوج يغلب على الحماسة، فهو ضد الغطرسة الأميركية التي تريد تأكيد هيمنتها بالحرب، وهو مع الشعب العراقي وليس مع مغامرات الغزو التوسعي الذي يدمر أول ما يدمر هدف الوحدة، كما يسمّم الجو بين الأخوة لدهر طويل ويمنع التلاقي ويضعف الجميع، ويمكِّن للتوسع الإسرائيلي، ويُخضع الكل للتحكّم الأميركي، سلماً أو حرباً.
ولا بد من التنويه بالظاهرة الأردنية المميزة:
فالنظام الذي ارتضى ارتباطاً عضوياً ومهينا مع إسرائيل هو الذي تعرض، أكثر من غيره، وربما وحده، للاعتراض الشديد، وهز الشعب سلاحه الفقير والمحدود في وجهه. وتظاهرات معان تدرج في هذا السياق: انها رفض للسياسة الإسرائيلية للنظام بقدر ما هي اعتراض على الحرب الأميركية على العراق،
وسجن ليث شبيلات سيدوّن في السجل المشرف لهذا المناضل الذي قاد مع زملاء له الاعتراض على الالتحاق بإسرائيل، وليس على حساب علاقاته الخاصة مع بغداد.
المهم، ان كوفي أنان قد أعطانا ليلة للنوم بعد ليالي الكابوس الأميركي الطويل.
وقد لا تكون هذه هي نهاية المغامرة الأميركية، التي قد تتجدد بأشكال وأساليب مختلفة في الأسابيع المقبلة،
لكن المؤكد أن صورة »الأميركي البشع« ستستفز الناس، يوميا، في مختلف أرجاء الأرض، حتى لو وصلت الى لبنان بسيقان جميلة كتلك التي عرضتها على مختلف المسؤولين في بيروت السيدة دانيال بلاتكيه.
.. وبلاتكيه هي أجمل صور الحرب الأميركية على العرب، داخل العراق وخارجه، ولعلها قد اختيرت للبنان، باعتباره رسميا ضعيفا أمام الجمال حتى لو كان آتيا للحرب وليس للمتعة!