طلال سلمان

ذكرى وليس محاسبة

من محاسن الصدف أن مؤتمر الحوار الوطني قد أنهى جلسته، أمس، بتعليق أعماله حتى 8 حزيران المقبل، متجنباً الانعقاد اليوم في ظلال الذكريات السوداء لاتفاق الإذعان مع العدو الإسرائيلي الذي جرت محاولة لتمريره قبل 23 سنة تماماً (17 أيار 1983).
… فلو عقد المؤتمر جلسة له اليوم لكان أطراف عدة من المشاركين في الحوار قد أحسّوا بالحرج الشديد، أو بتأنيب الضمير (إذا حسُنت النوايا في احتمال توبتهم..)، ولكان أطراف آخرون قد انتبهوا إلى أنهم قد اندفعوا بالضغينة أو بالنكاية، بلوثة الرغبة في الانتقام أو بالرهان الخاطئ بعيداً عن المواقع التي قاتلوا منها، يومذاك، ضد اتفاق الإذعان فدخلوا وجدان الوطن والأمة واستحقوا شرف أن يحتسبوا بين قادة العمل الوطني والقومي، وأن يبقى لهم هذا الرصيد العظيم برغم أخطائهم الصغيرة وسوء التقدير الذي جنح بهم بعيداً عن تاريخهم.
.. ولكانوا قد استذكروا دوراً مجيداً لغائب لا يغيب هو رفيق الحريري، الذي دفعته وطنيته وهي هي عروبته لأن يغامر بأمنه (مع الحارس اليقظ المنبّه للغط، جان عبيد) في إقناع بطل الاتفاق بعدم التوقيع عليه، ثم في سرقة المشروع وحمله إلى دمشق، لتبدأ منها ومعها المعركة لتحرير لبنان منه واستعادته إلى موقعه الطبيعي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بحرب حقيقية امتدت ضد العدو ومن معه من بيروت وضاحيتها النوّارة إلى الجبل وصيدا الباسلة وقرى شرقي صيدا، وفيها المؤسسة الحلم في كفرفالوس، وصولاً إلى الشريط الحدودي .
… ولكانوا قد انتبهوا إلى أن المطالعة الباهرة التي قدمها السيد حسن نصر الله حول استراتيجية الدفاع عن لبنان، ليست حصيلة دراسة نظرية أو تقدير موقف لمعادلة القوى بين العدو الإسرائيلي والقدرات اللبنانية المحدودة، بل هي حصيلة مواجهة بالدم وبالعقل وبالكفاءة الملتزمة الواجب الوطني المقدس، من أجل تحرير الأرض وطرد المحتل الجبار منها، في يوم مشهود لا يُنسى، وإن كان قد أُسقط من الحسابات الحكومية الباردة لأيام العطل الرسمية!
… ولكان الجميع، ولا سيما الخطاة، قد انتبهوا إلى أن إسرائيل قد ملأت سلال المهملات بقرارات عديدة لمجلس الأمن وللجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تنفذ واحداً منها، يتعارض مع مشروعها لمحو فلسطين والهيمنة على هذه المنطقة الغنية بموقعها وبثرواتها الخرافية.
… وإلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تساعدنا يوماً في إخراج الاحتلال من أرضنا، عملاً بقرارات الشرعية الدولية.
… وإلى أن مجلس الأمن الدولي لم يعقد سلسلة متعاقبة من الجلسات لاستصدار دفعات من القرارات التي تطالب الاحتلال الإسرائيلي بالخروج من لبنان، تحت طائلة التهديد والعياذ بالله بالفصل السابع الذي ينص على استخدام القوة إذا لزم الأمر، لتنفيذ الإرادة الدولية النافذة حتى على… إسرائيل!
… فضلاً عن أن السيد جون بولتون، الذي يكاد يصوّر اليوم وكأنه أحد أبطال ثورة الأرز ، وخط الدفاع الأول عن السيادة والاستقلال والوحدة الوطنية، يريدنا الآن أن نجعل سوريا في موقع العدو الإسرائيلي فيسخّر لنا مجلس الأمن وفصله السابع مجاناً لوجه الفوضى الخلاّقة و مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي نرى نموذجه الأولي في العراق، فضلاً عن فلسطين التي أسقطها مجلس الأمن من حسابه.. أفلا يستحق منا مثل هذا البطل الشكر والتكريم؟!
صحيح لن يعقد مؤتمر الحوار جلسة اليوم، والحكمة من الإرجاء واضحة.. لكن للناس ذاكرة، وللأرض ذاكرة تنبض بدماء الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداءً لتحرير الوطن وهم أبناؤه البررة، ليسوا وافدين إليه من خارجه ولا طارئين عليه، لا هم مرتزقة عملوا لدينا بالأجر، ولا هم يمنّون علينا بإنجازهم، ثم إنهم قد تركوا محاسبة الخطاة للشعب والتاريخ، وانصرفوا إلى تدعيم الوحدة الوطنية بالمناعة الجهادية.
وبين شروط حماية الحاضر والمستقبل ألا نزوِّر الماضي، فنجعل الإذعان للعدو بطولة والمقاومة خطراً على الاستقلال والوحدة الوطنية.

Exit mobile version