تتفجّر الثورات عادة من أجل أسباب مطلبية أو سياسية، ونادراً ما يكون الأمر لأسباب ثقافية (تتعلّق بأسلوب العيش ونمط السلوك)، وذلك منذ الحروب الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر حتى أواسط القرن السابع عشر. كان سببها العقيدة الدينية، بل استهتار رجال الدين بالدين والأخلاق والسياسة والحياة البشرية.
حروب “الإصلاح الديني” ضد الكنيسة، والإصلاح المضاد (الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية)، كانت حول الثقافة بما فيها العقيدة الدينية، ونمط العيش، وتحكّم رجال الدين بالمجتمع، والعلاقة مع الله، ورفض وساطة رجال الدين المسيحيين بين الإنسان وخالقه، وقيم العمل، واستخدام العقل، والجرأة على اكتشاف الطبيعة والكون، واستخراج قوانين علمية جديدة تفسرهما، والخروج من عبادة العلم الموروث وكتبه الصفراء، واحتكار رجال الدين للكتاب المقدس ومنع العامة من القراءة فيه. كانت ثورة داخل “الذات الغربية” مهّدت لكل الثورات اللاحقة. وكان هدفها المعلن، أو غير المعلن، بل نتيجتها الحتمية بداية تحرير الفرد من قيود الثقافة والمجتمع والدين. صحيح أن الأمر أدى على مدى القرون الى التحرير السياسي بمعناه العميق، أي خروج الناس على السلطة، وتعديلها، أو قلبها إذا اقتضى الأمر، لكنه تحرر أو حرية بدأت في الضمير الإنساني لتبني السياسة على الفرد الذي سيصير مواطناً مع نشوء الدولة الحديثة.
“الرجل الأبيض” لم يكتسب أسباب القوة لفرض سيطرته على العالم وينفّذ جرائمه بحق الإنسانية، وتقدمه على صعيد المعرفة، لولا الثورة داخل الذات. وكانت تلك الثورة ثقافية حقيقية سبقت الثورات المطلبية. العامة تقرأ الكتاب المقدس وتفسره على أساس ضمير كل منها. كائن جديد ثائر على الدين رافض العقيدة الدينية (وما يشبه الملالي والعلماء ورثة الأنبياء). كائن جديد يقرر هو علاقته بالله. يعيد صياغة العقيدة الدينية. ينبذ العصمة عن وكلاء الله. ويقيم علاقة مباشرة مع السماء. وهذا ما حاولته الصوفية في الفضاء الإسلامي، قبل أن تستكين للأرثوذكسية السنية والشيعية.
صار بعد هذه الثورة الثقافية الكفر بالله كفر بالإنسان، أو العكس هو الصحيح. وصار الإيمان خروجاً على العقيدة. الإيمان علاقة بالله. العقيدة طقوس يرسمها وكلاء الله لتقييد الإيمان. تحرر الإيمان من العقيدة، فكان تحرر الفرد من المجتمع، بالأحرى تحرر الفرد من السلطة. ما عاد الدين أفيون الشعوب كما قال كارل ماركس، بل تعبيراً عن النفوس أو الأرواح المعذبة، كما قال كارل ماركس أيضاً في متابعة كلامه عن أفيون الشعوب.
يحاسب مسؤولو شرطة الأخلاق، وغيرهم من دهاقنة النظام، مواطنيهم على العقيدة لا على الإيمان، وهو الأساس. لا يستطيعون الوصول الى الإيمان. الإنسان عميق الغور. الإيمان لا يصل إليه إلا الله. يتلوى أركان النظام غيظاً إذ لا يستطيعون الوصول الى أعماق الإيمان، لاكتشاف جوانية الإنسان. الذكاء الإصطناعي لا يستطيع ذلك. الإنسان يحميه ضميره وجوانيته. تحميه الأسرار وجنح الليل. في الظلام يعمل بلطجية النظام، ويفبرك في الآن معاً ضمير الناس الجواني أفكار الناس المعارضة التي لا يصل إليها النظام وعسسه، بل تتناقلها الأفواه شفاهة وعبر تواصل اجتماعي. شبكة التواصل الاجتماعي (الانترنت وبناتها) هي شبكة لا أول لها ولا آخر. تستطيع أنت ولوجها أو الخروج منها في أي مكان على الشبكة. لا يمكن ضبطها وإن كان بالإمكان منعها. لكن منعها يسبب مشاكل أكبر من السماح بها. الانترنت ووسائله ورثوا الكاسيت أيام الإمام الخميني، والترانزستور أيام جمال عبد الناصر.
هذه ثورة ثقافية ضد السلطة. ليست حرباً أهلية بين مذهب ومذهب، ولا بين دين ودين، ولا حتى مواجهة الامبريالية العالمية. هي ثورة داخل المذهب، وداخل الدين، وداخل كل فرد. هي ثورة الحرية الفردية ضد التحرر السياسي. هي ثورة الفردية ضد نظام الملالي والمشايخ وكل من يعتبر نفسه ذا شرعية تخوله الحديث بالنيابة عن الله. هي عملية انتزاع الله من يد وكلائه الرسميين ليحتل مكانه في كل ذات بشرية فردية. هي انتزاع الشرعية من النظام وانتقالها من النظام الى الفرد، الى الضمير. ثورة ثقافية تبشر بآداب جديدة.
إذا كانت الأخلاق قواعدها ثابتة قبل الدين وبعده، قبل النظام وبعده، فإن الآداب الجديدة حصيلة تطوّر يتفاعل في قعر المجتمع الى أن يظهر فجأة بكل زخم. وكما أن “الحُرج تولعه عود الثقاب” كما تقول أغنية صباح، فإن الثورة الثقافية تعلنها خصلة شعر مهسا أميني. ولا يمكن إلقاء اللوم على المؤامرات الخارجية، كما تفعل عادة أنظمة التحرر الوطني، ومنها النظام في إيران. وقود الثورة الثقافية هذه هو في أعماق المجتمع. نكرر أن الإنسان عميق الغور. لا يستطيع الإنسان ولوج ما تحت السطح، ولو حاول. لكن النظام يحاول بالقمع والإكراه والملاحقات، وكل ذلك يخدش السطح الخارجي لا أكثر.
هذه ثورة تبدأ في إيران وتعم العالم الإسلامي. كما بدأت الثورة العربية في 2011 في تونس ومصر وعمّت المنطقة العربية. في الثورتين مطلب الحرية هو الأساس. الثورة العربية كانت مطلبية ذات قاعدة ثقافية، الثورة الإسلامية هي ثقافية لا بدّ لها من قواعد مطلبية. هي الحدث الثقافي الأبرز في العالم الإسلامي المعاصر. بدأ في ايران وسينتشر نحو كل العالم الإسلامي. وعلى كل نظام إسلامي التعامل مع فكر إسلامي جديد صادر لا من كتب التراث التي تركتها لنا الأجيال المتعاقبة، ويتداولها أهل السلطة الدينية (الثقافية) في مدارسهم وحوزاتهم. أجيال بكاملها تزج نفسها في الشارع (الفضاء العام) وتظهر للعلن. وستكون هناك ثورة مضادة وحشية. وهي كذلك لأنه لن ينفع في تخفيف حدتها عشرات ملايين الدولارات التي وزعها الملك عبدالله آل سعود على الناس، وهو عائد من نقاهته في الخارج، والتي قطع أمدها، وأخذ قرار التوزيع وهو في طريق عودته، قبل أن تطأ الأرض طائرته. ستحاول أنظمة الاستبداد السياسي تشديد القبضة لكن الأمر سيؤدي الى مصادمات كبرى ودم كثير. وإذا خففت الأنظمة الاستبدادية الوطأة فإنها ستسقط في رمال الثورة الثقافية المتحركة.
ليس من عادة الثورات الثقافية التوقف لأن غايتها ليست أقل من تغيير أسلوب العيش. هذا الأسلوب الذي اقتات منه النظام طوال عقود من السنين، والذي تطلّب التحضير له عقوداً أخرى. تغيير أسلوب العيش يتطلب إزاحة سلطة أصحاب العمامات. سيتحرر جسد المرأة من قيود العورة ليصبح سدنة الهيكل هم عورة المجتمع. وستحل خيمة السماء على جسد المرأة مكان كل محاولة “تأطير” يريد فرضها السدنة على كل إمرأة. وسيحل اللهو الفني مكان الإستقامة الأخلاقية التي يفرضها أي نظام، وسيتغيّر نظام النيوليبرالية الدينية الى شيء آخر. لا نحن ولا هم نعرف مآلات الأمور، لكن سدنة الهيكل بدأوا يشعرون أن الأركان التي استندوا إليها بدأت تهتز وهي في طريقها الى السقوط. ثورة من نوع جديد، كما كانت الثورة العربية عام 2011 من نوع جديد.وقد استمات قادة الثورة المضادة العربية والإسلام السياسي الذي ناصرهم في قمعها.
معارضة الغرب للحجاب كانت ملتوية وعنصرية. هذه المعارضة في العالم الإسلامي شيء مختلف. هي ثورة ثقافية ضد نمط العيش. هي ثورة المرأة في سبيل أن تأخذ المرأة مكانها ومكانتها في المجتمع، وفي سبيل أن يخرج الجيل الجديد الى العالم ويندمج فيه. لم تعد المغايرة الثقافية مفيدة. صارت نوعاً من العنصرية المعكوسة. عنصرية فرضها النظام على نفسه. النظام السعودي أعرق من الإيراني في تشديد القبضة. النظام التركي لم تكن لديه الجرأة الكافية لإزاحة تراث مصطفى كمال. لكن المزاج الإسلامي العام المائل الى التزمت والى فرض الدين على السياسة قد بدأ بالأفول. هل هو تفاؤل مبكر ما نقوله؟ ليس الظن كذلك وإن كانت الرغبات تفوق أحياناً حقائق الواقع.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق