أي الأيام هو »العيد«، عندما يكون موضوعه الشهادة والشهداء؟!
في الماضي كان الأمر بسيطù، وأمكن تحديد الشهداء، بأسمائهم والتفاصيل وبينها القضية والمكان والزمان وهوية الجلاد: كانوا نفرù قليلاً، طليعة متقدمة، روادù ومجاهدين أطلقوا النداء أو لبّوه واقتحموا بدمائهم ليل الظلم والامتهان وطمس الانتماء وحقهم في الأرض والحرية والكرامة والخبز مع العدل.
لكنهم اليوم كُثُر بحيث لا يحصرهم عد، ولا يختزلهم رمز،
إنهم »أمة« داخل الأمة،
ففي كل بيت شهيد، والبيوت ذاتها بعضها مَن استشهد وبعضها مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلاً.
الوطن نفسه يستشهد أكثر من مرة في اليوم،
والأمة ذاتها تبدو كأنها مهددة في وجودها، ومفروض عليها خيار بين استحالتين: الموت اندثارù أو القتل مع حرمانها شرف الاستشهاد.
* * *
في لبنان ألغوا السادس من أيار كعيد رسمي، فبادرت نقابة الصحافة إلى »بعثه« من جديد، بعد قتله، واعتبرته عيدù لشهداء الصحافة، وقرّرته يوم عطلة للصحف والصحافيين.
كان التبرير مقنعù في الشكل: لماذا تكريس العيد لمن شنقهم جمال باشا، أيام الاحتلال التركي؟! وأين موقع الشهداء في عهد الانتداب الفرنسي، ثم في زمن الاستقلال، ولا سيما في زمن الاستقلال؟!
ومع الحرب/ الحروب/ الأهلية/ العربية/ الدولية وطوفان الدم الذي اجتاح البلاد ملتهمù عشرات الألوف من شبابها وشيبها، اعتبر الاحتفال بذكرى استشهاد العشرات (قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى على يد الأتراك المهزومين بالنتيجة) قاصرù عن إيفاء الشهداء (الآخرين) حقهم، خصوصù أن الانقسام جعل كل فئة في البلاد تفرز الضحايا نوعين: شهداء وقتلى، فالشهيد هنا قتيل، وربما قاتل هناك!.
هل من سبيل لتوحيد مَن خسرناهم، سواء أكانوا شهداء أم قتلى؟!
إن توحيد »الغائبين« يبدو أساسيù في توحيد »الأحياء« الحاضرين، وفي تثبيت بعض البديهيات التي يتشكّل منها في العادة »الوطن«.
* * *
بين مفردات »المرحلة«: وُلد الوطن عبر المذبحة في قانا (والنبطية وقبلهما في المنصوري)…
هذا يعني ببساطة، وإذا ما كففنا مرة عن تجهيل الفاعل، أن الوطن قد وُلد عبر المواجهة (ولو باللحم الحي) مع إسرائيل، بوصفها »العدو«،
وهذا يعني أن الوطن قد وُلد ليس عبر »حروب الآخرين على أرضه«، بل عبر »الحرب« عليه بذاته ولذاته، على أرضه وفي أرضه ومن أجل أرضه،
والحرب إسرائيلية أميركية بالتحديد الدقيق،
هذا يعني أيضù، أن المقاومة شرف للوطن وإضافة إلى رصيد شعبه، ليست هجينة ولا دخيلة، ليست طارئة وليست وافدة، وليست جالية أجنبية: شهيدها شهيد الوطن والأمة، وسلامتها واستمرارها والحفاظ على زخمها (وعلى سلاحها) واجب وطني وقومي من الدرجة الأولى، من يفرّط به أو يسيء إليه كمن يرتكب جرم الخيانة العظمى.
وليس لبنان واللبنانيون مجموعة من الضحايا سقطوا بفعل عوامل طبيعية لا رادّ لها كالزلازل والبراكين والفيضانات.
والمقاومة ليست تبريرù للاحتلال، ولا هي الذريعة المناسبة للاستسلام »حتى لا يتهدم في لبنان أكثر مما تهدم حتى اليوم«.
وُلدت المقاومة كرد فعل طبيعي على الاحتلال، وكان يجب أن تولد، وإلا اتُهم شعب لبنان بالعقم، وإذا كان »الغير« لا يقاوم فهذا ليس عذرù لنا، وإذا كانت طليعة المقاومين في لبنان فهذا شرف للبنانيين جميعù ولمن يساند »مقاومتهم« الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، ويحميها بسلاحه أو بموقفه السياسي أو بالاثنين معù.
* * *
اليوم، وبعد المواجهة المجيدة للاجتياح الإسرائيلي، يستحق الإعلام عمومù والصحافة خصوصù، لفتة تقدير إلى جهده المميّز في المعركة.
في الماضي كان اللبنانيون ومثلهم سائر العرب، يموتون في أي مواجهة مع إسرائيل (والغرب، الأميركي بالذات) مرتين: تقتلهم إسرائيل، ماديù، أول مرة، ثم يقتلهم الإعلام (الغربي) معنويù مرة ثانية ونهائية. يموتون وهم مُدانون وليسوا حتى ضحايا. يموتون كإرهابيين لا كمقاومين، ويموتون كمهددين للسلام في المنطقة والعالم وليسوا كطلاب سلام محرومين من نعمة السلام في بيوتهم وعلى أرضهم، على أيدي أعداء السلام.
هذه المرة، قبل المنصوري وفيها، وقبل النبطية الفوقا وفيها، ثم قبل قانا وفيها على وجه التحديد، استطاع الإعلام (اللبناني أساسù والعربي وبعض العالمي) أن يمنع »القتل الثاني« لضحايا الهمجية الإسرائيلية… بل انه استطاع أن يصحّح بعض الصورة التقليدية المزيفة، وأن يوصل إلى اللبنانيين وإخوتهم العرب ثم إلى العالم كله المشهد بحقيقته: الجاني هو الجاني دائمù، الإسرائيلي، والضحية هو اللبناني المنذور للشهادة دائمù، لأنه يتصرف كإنسان طبيعي، أي يتمسك بحقه في بيته فوق أرضه، ويفضل أن يعطي دمه ولا يتنازل عن هذا الحق.
لقد تقدم العشرات، بل المئات من الشبان والصبايا، متطوعين، ومدفوعين بحسهم الوطني أولاً ثم بالدافع المهني، إلى أرض المعركة، وخاضوها كالمجاهدين، بالكلمة والصورة. اقتحموا الخطر بكاميراتهم وأقلامهم ودمائهم، وعاشوا مع أهلهم وأرضهم وانتصروا لهم ثم انتصر الكل معù في المواجهة المفروضة.
في عيد شهداء الصحافة، الذين أريد لهم أن يختزلوا شهداء الوطن والأمة، والذين أكدوا جدارتهم بهذا الشرف، تحية لكل أولئك الذين حفظوا للدم مجده، وللأرض كرامتها، وللإنسان نُبل انتمائه،
تحية للذين أسهموا في أن يرفعوا الضحايا إلى مرتبتهم الأصلية كشهداء، وأن يصدروا وثيقة الإدانة للجلاد الإسرائيلي، وأن يزوِّدوا ذاكرة الأمة ووجدانها بما ينفع أجيالها الآتية في إشادة الغد الأفضل.