أسقطت الولايات المتحدة الأميركية حق الأكثرية من دول العرب في أن يكونوا »حلفاء« لها في حربها الكونية الجديدة ضد الإرهاب الدولي، متجاوزة كل ما صدر عن حكوماتهم ومرجعياتهم الدينية وهيئاتهم ومنظماتهم السياسية من رسائل تضامن ومساندة ومن شجب صارم واستنكار شديد وإدانة قاطعة »للإرهابيين«، لم توفر النص المقدس للتوكيد على صدق التعاطف مع ضحايا التفجيرات في واشنطن ونيويورك.
فالرسالة التي سلمتها الخارجية الأميركية إلى ممثلي خمس عشرة دولة عربية في واشنطن كادت أن تكون »مذكرة جلب«، بل ربما رآها بعضهم »مضبطة اتهام« لهؤلاء الذين كان معظمهم يصنف نفسه في خانة »الأصدقاء«، وبالتالي فهي لا تصلح قطعاً لأن تكون قاعدة لعلاقة بين »حليفين«.
قالت واشنطن للعرب إن »التحالف« أبعد من أن ينالوه ب»التعاطف«.
وشرطت واشنطن على العرب ما لم تشرطه على غيرهم من دول الغرب والشرق (غير العربي خاصة وغير الإسلامي عموماً)..
تجاهلت واشنطن، مرة أخرى، أن هؤلاء العرب (والمسلمين) هم بغالبيتهم الساحقة الماحقة ضحايا نموذجيون للإرهاب، الخارجي بعامة والإسرائيلي بخاصة والداخلي المستند ضمناً إليهما، وأنهم من هذا الموقع هم أعظم المتعاطفين مع الضحايا الآخرين للإرهاب، أي إرهاب وكل إرهاب، ولم تتفضل عليهم بالتبرئة من تهم التواطؤ أو التستر أو ربما رعاية »الإرهاب« و»الإرهابيين«، ولا بمحاولة التمييز بين »المقاومين« من موقع أصحاب القضية العادلة وبين هواة القتل والمهووسين بالمجازر الجماعية.
وفي الأخبار »شبه الرسمية«، أو التسريبات المقصودة ما يشير إلى احتمال أن تكون ثلاث أو أربع من الدول العربية بين »المتهمين«، وبالتالي بين أهداف الحرب الأميركية والتي تنسج لها واشنطن الآن تحالفاً دولياً لاستئصال الإرهاب من جذوره.
يمكن الاستنتاج مباشرة أن الولايات المتحدة لا تريد تحالفاً بين ضحايا الإرهاب، وأنها لا تنظر إلى تعاطف العرب خاصة، أي تعاطف الضحايا مع الضحايا، بما يتجاوز الموقف العاطفي إلى الموقف السياسي المعلن من الإرهاب، لا سيما حين يكون الإرهاب سياسة رسمية معتمدة.
بل ان واشنطن تطلب من العرب، الآن، أن يخفوا جثث قتلاهم في فلسطين المحتلة، وأن يمسحوا الدماء عن أيدي أرييل شارون، وتنكر على العرب أنهم، بعنوانهم الفلسطيني، ضحايا إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل، والذي بلغ ذروة عنفه في الأيام التي تلت التفجيرات في كل من واشنطن ونيويورك.
المقتول في فلسطين »إرهابي« خطير، أما القاتل الإسرائيلي فهو الحليف الطبيعي للأميركي وهو يشرع صواريخ الانتقام ويحشد جيوش الثأر لاستئصال الإرهاب والإرهابيين.
كيف يطلب إلى العرب أن يطووا الحديث عن إرهاب الدولة الإسرائيلية، وأن ينتظموا »كمخبرين« أو »كمتواطئين« أو »كأدلاء« وليس كحلفاء أبداً في مؤخرة الجيوش التي قد تستهدفهم في مَن تستهدف بهجومها الوشيك، لأن بعض »المتطرفين« ينتسبون إلى بعض أقطارهم، وكانوا يعملون في خدمة المخابرات المركزية الأميركية في أفغانستان ثم انتشروا بعد ذلك كالوباء في العديد من ديار العرب والمسلمين، فلم يقتلوا إلا عرباً ومسلمين؟!
لا يجوز أن يحوّلنا فشل السياسة الأميركية من ضحايا إلى مجرمين،
ولا يجوز أن يتسبّب تخاذل العديد من الحكومات العربية وأكثرية الحكومات في الأقطار الإسلامية في تحويل العرب والمسلمين، عموماً، إلى أهداف للانتقام،
أي »تحالف« هو هذا الذي كان وضعنا في موقع الهدف لرصاص بن لادن ومن معه وهو يريدنا الآن أهدافاً لصواريخ الذين أوجدوه ودربوه بعدما خرج عليهم وقاتلهم بالسلاح الذي دربوه عليه، برغم إدانتنا المعلنة لكل ما قام به أنصاره في بلادنا بداية (في مصر والجزائر واليمن والسودان) ثم في البلاد البعيدة؟!
إن العرب هم ضحايا سابقون ولاحقون ودائمون متى اتصل الأمر بإرهاب الدولة في إسرائيل التي تتحكّم بمصائرهم، ودائماً من داخل الرعاية الأميركية والمساعدة الأميركية المفتوحة والتحالف الاستراتيجي المعلن.
مع ذلك فإن شارون يعتبر ياسر عرفات »بن لادن إسرائيل«، في حين أن عرفات كاد يتهم في وطنيته بسبب من مراهناته الدائمة على السياسة الأميركية التي طالما خذلته، وبسبب من استعداده الدائم لصفقات يراها الكثير من الفلسطينيين (والعرب) مهينة مع مختلف حكومات إسرائيل بما فيها حكومة شارون الأكثر دموية وبامتياز؟!
وآخر مشاهد تهافته هو صورته وهو يتبرع بالدم للضحايا الأميركيين، بينما لم يكن مضطراً لمثل هذا التهالك.
* * *
مع ذلك فإن التعاطف العربي مع ضحايا الهجمات الإرهابية في أميركا هو موقف ثابت، بالمعنى الأخلاقي وبالمعنى السياسي.
لكن التحالف أمر آخر تماماً، ويجب النظر إليه بحذر شديد حتى لا يكون استدراجاً لبعض العرب (والمسلمين) للتواطؤ على بعضهم الآخر، (وما يجري مع باكستان لمحاصرة أفغانستان تمهيداً للهجوم عليها قد يشكل نموذجاً لما سوف تواجهه بعض الحكومات العربية)،
.. مع فارق واضح: ان الولايات المتحدة الأميركية قد وجهت اتهاماً رسمياً لبن لادن بالمسؤولية عن الهجمات داخل بعض مدنها، وهي تطارده بوصفه المتسبّب في قتل أو إيذاء عشرات الآلاف من مواطنيها، فضلاً عن تعريض هيبتها الكونية للامتهان.
في أي حال فليس ثمة عرض أميركي على العرب بأن يكونوا »حلفاء« لها في هذه الحرب التي ستفرض على العالم كله وبالشروط الأميركية التي أولها في ما خص العرب أن يطووا ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وأن يسكتوا نهائياً عن المذابح المنظمة ضد الفلسطينيين والتي تزايد عدد ضحاياها كما تفاقمت وتيرة التدمير المصاحبة لها في أيام ما بعد الثلاثاء الأميركي الأسود،
إن العرب في هذه الحرب المفروضة في موقع الضحية، مرة أخرى، وليسوا أبداً في موقع الحليف ناهيك بموقع »الشريك« المحجوز دائماً لإسرائيل.
يقول الكاتب جوناثان شيل في صحيفة »صوت الأمة« الأميركية:
»إن إعادة اكتشاف أنفسنا كحيوانات سياسية يعني أيضاً أن نفهم مصادر الكراهية التي أوجدتها الولايات المتحدة الأميركية خلال عقد من التجاهل للشؤون الدولية، وهي مهمة غير مرحب بها من قبل الكثيرين في ظل الظروف الراهنة.
»لكن ذلك لا يمنع أنها ضرورية لأمن الولايات المتحدة والعالم في المستقبل«.
… والرسالة الجديدة التي بعثت بها الخارجية الأميركية إلى الدول العربية عبر سفرائها في واشنطن لا توحي بأن مصادر الكراهية قد أقفلت، ولا أن التجاهل للشؤون الدولية، وللهموم العربية على وجه التحديد، قد انتهى.
و»التحالف« لا يتم بمذكرات جلب، في أي حال.