كلما توهّم اللبنانيون أنهم «شعب» في «دولة» مستقلة وذات سيادة، تصرفت الطبقة السياسية معهم وبهم «تصرف المالك بملكه»، فأعادت تقسيمهم بين إقطاعيتها الطائفية والمذهبية، مطيحة «وحدتهم» و«دولتهم» التي أعيد بناؤها عشرات المرات منذ أن ابتدع لها كيانها السياسي لمبررات لم يكن من بينها رأي «الرعايا» الذين شدوا إليها بسلاسل، بعضها من ذهب، ومعظمها من حديد!
كانت الدولة «هشة» على الدوام، أما النظام فكان عاتياً وعصياً على التغيير، ليس فقط لأنه محكوم بمجموعة من التوازنات الطائفية والمذهبية الدقيقة، بل لأن الطوائف والمذاهب «مصالح حيوية» لدول كثيرة، سرعان ما تتحول إلى «محميات»، إذا ما فجّر الصراع «الدولة» ومؤسساتها، ويظل «النظام» صلباً متماسكاً يقوم على حراسته ـ أساساً ـ مَن كانوا على رأس المنادين بإسقاطه لمجافاته «حقوق الشعب» وأولها «الوحدة الوطنية» اللاغية للديموقراطية.
الخيار الذي يقدمه «النظام»، عبر الطبقة السياسية، محدد تماماً: تريدون السلامة والأمن والازدهار السياحي إذن فانتظموا في طوائفكم ومذاهبكم كرعايا، واهجروا الدعوات الهدامة المطالبة بتغيير النظام أو تعديله بحيث يكون أكثر عدلاً وأكثر ديموقراطية… فالعدل سوف يخلخل الوحدة الوطنية، والديموقراطية أسرع طريق إلى الحرب الأهلية، فالتوازنات الداخلية هشة ولا تحتمل «العنف الثوري»!
وبالتالي فإن «النظام» ولاّدة حروب أهلية، لا تكاد واحدة منها تهدأ «بتسوية» تشارك في صياغتها «الدول» حتى تتحول «التسوية» ذاتها إلى مفجّر للحرب الأهلية التالية، نتيجة لاختلال التوازنات الدولية التي فرضتها، أو نتيجة لاستهلاك ركائزها في صراعات أهل الطبقة السياسية أنفسهم، بالاستناد إلى تحولات على المستوى الديموغرافي تستوجب تعديلاً في توازنات «السلطة» التي لن يتردد النظام في استبدالها بأخرى أكثر ملائمة لدوامه، حتى لو كلفت إعادة الصياغة هذه بعض الدماء وحتى بعض الرموز التي لم تلتقط معطيات اللحظة فاستحقت السقوط المدوي!
[ [ [
هل ترانا نتقدم، في هذه اللحظة، نحو واحدة من أخطر الأزمات المتفجرة التي استولدها هذا النظام المستعصي على التغيير، والذي متى استشعر تهديداً بادر إلى افتداء نفسه بحرب أهلية، لا يهم إن هي اتخذت طابعاً طائفياً تحت شعارات وطنية براقة، أو انزلقت إلى «المذهبية» تحت شعار «العدالة الدولية» التي لا تعني ـ في هذه اللحظة ـ غير الاستقواء «بالدول» لحماية سلطة لا يمكنها أن تحكم إلا بالتوازن، مفترضة أن «التوازنات الدولية» الراهنة يمكن أن تحمي انقلابها العتيد.
لقد شهد لبنان مشاريع انقلابات سياسية عدة، داخل نظامه، فذهبت بالعديد من أركانه، إما لأنهم قاوموها، وإما لأنهم أخطأوا في حساباتهم بل في مراهناتهم، لا سيما عندما أدخل بعضهم «إسرائيل» في زمرة «الدول الراعية» للانقلاب جهاراً نهاراً متحدياً بذلك التوازنات الدولية الحامية للنظام، والتي تأخذ بالاعتبار موقع لبنان وهويته التي لا يمكن أن تلغيها بالمطلق تغذية الخلافات الطائفية ودفعها إلى التصادم… فقوات الردع المطلوبة لحماية النظام من مغامرات أركانه تبقى عربية بالضرورة، وإن ظللها قرار «الدول» التي كثيراً ما أعلنت أنها «تعرف مصلحة لبنان أكثر من أبنائه» الذين يسهل تضليلهم وأخذهم بعيداً عن واقعهم باستغلال مشاعرهم الطائفية والمذهبية التي تسهل استثارتها في العديد من الحالات ودفعهم إلى التفجر غضباً ورغبة في الانتقام من «الآخر» الذي كان ـ إلى ما قبل يوم واحد ـ أخاً شقيقاً وحليفاً سياسياً مخلصاً!!
[ [ [
هل أن لبنان، هذه اللحظة، على شفير الهاوية؟
ليس سراً أن اللبنانيين الذين يصعب اعتبارهم شعباً واحداً في حالة التصادم أو التعارض في المصالح بين أطراف الطبقة السياسية متعددي الالتزامات والارتباطات مع «الدول»، يتعرضون هذه الأيام إلى عملية تقسيم غير مسبوقة في مداها وفي حساسياتها التي تضرب روابطهم العائلية وأنسابهم فضلاً عن مصالحهم المباشرة وهناءة عيشهم.
إن اللبنانيين، عموماً، يتعرضون لحملة تشهير دولية لم يسبق لها مثيل!
إنهم يصوّرون، وكأنهم مجاميع من القتلة والسفاكين المستعدين لأن يلتهموا لحوم بعضهم البعض، جهاراً نهاراً وأمام كاميرات الفضائيات وفضول السياح وأشتات المخابرات الدولية.
وليس سراً أن التاريخ السياسي للبنان قد شهد العديد من الاغتيالات السياسية التي تم ترتيب بعضها ـ دولياً ـ لمنع اختلال ما في التوازن الطوائفي الهش، أو لمنع انقلاب سياسي راديكالي قد يهدد النظام.
لكن المسؤولية عن تلك الاغتيالات لم تكن تعمّم حتى تشمل طوائف بكاملها، وسط حملة تحريض غير مسبوقة تستهدف إشعال المشرق العربي بشعوبه جميعاً، موفرة الفرصة لإسرائيل كي تبتلع ما تبقى من فلسطين لتعلن نفسها ـ برعاية أميركية وبلسان الرئيس الأسمر ذي الجذور الإسلامية، «دولة يهود العالم»، وبحضور شاهدين عربيين ساميين في البيت الأبيض بواشنطن.
ولم يكن يترك «للدول» أن تنصب نفسها في موقع القاضي النزيه والحاكم بالعدل، تحاسب مجاميع الشعب في لبنان، وتجرم أنبل ظاهرة وطنية ـ قومية فيه، وتشطب «الدولة» تماماً، وتضرب وحدة الشعب في صميم لحمتها وفي ركيزة استمرارها كضمانة «للكيان» ولنظامه الفريد.
وفي كل الحالات، لم يكن يفرض على شعب لبنان الغارق في الحزن على شهيده الكبير، الرئيس رفيق الحريري، الذي كان بين ركائز وحدته الوطنية واستقراره السياسي، أن يدفع من عرق جبينه ـ وهو الغارق في ديونه بالمليارات التي تنهك اقتصاده وتهدد بزعزعة «دولته» العاجزة عن تلبية أبسط مطالبه (الماء والكهرباء) ـ أكلاف المحكمة الدولية التي تبدى مجرد تشكيلها وفي الظروف المعروفة أشبه بعملية تهريب منظمة ومحمية بحراسة دولية للعدالة وحق اللبنانيين في أن يواصلوا حياتهم محاولين التغلب على شعورهم العميق بالفقد وقلقهم البالغ على مستقبل أجيالهم الآتية.
لم يحدث، في التاريخ، أن كان «التدويل» طريقاً إلى العدل. فالدول مصالح وليست وحدة الأوطان بين هذه المصالح، في الغالب الأعم.
وهذه فلسطين شاهد وشهيد… فالتدويل قضى على حقوق الفلسطينيين في دولة لهم فوق أرضهم التي باتت الآن مزروعة بالمستوطنات التي تسرع إسرائيل بناءها لتكون ـ بحق ـ دولة يهود العالم.
… وتدويل العراق بالاحتلال الأميركي ضرب أول ما ضرب وحدة هذه الدولة العربية القوية التي كانت تشكل أملاً عربياً في التحرر والتحرير، وها هو كيانها الآن ممزق بالعنصرية والطائفية والمذهبية التي تحولت جميعاً إلى مصالح حيوية لدول كثيرة على حساب مصالح الشعب العراقي الذي كان واحداً والذي يعيش اليوم في قلب الحرب الأهلية.
وتختزن ذاكرة اللبنانيين العديد من الكوارث التي تسببت فيها رعونة بعض قيادات الطبقة السياسية التي حاولت التفرد بالحكم أو إعادة صياغة هوية البلاد، بالاستناد إلى تعهدات خارجية بتدويل الأزمة، وفرض الحماية على «العهد الجديد» الذي لم يقدر له مرة أن يتكامل فيخرج إلى الوجود ويتولى مقاليد السلطة في هذا الوطن الصغير الذي إذا مسّت توازناته اندثرت دولته، وإن بقي نظامه ليؤكد المزيد من الحروب الأهلية.
إن لبنان، مهدد، اليوم، في وحدة شعبه وضمانات استمرارها، ودولته التي تتهاوى تحت ضغط التجاذبات الدولية، التي يرى بعض «الدول» في التحقيق الدولي ومن بعده المحكمة الدولية استثماراً مجزياً لها ولإسرائيل، بل أساساً لإسرائيل، في حين يرى البعض الآخر من «الدول» أن الحكم في لبنان هو مصدر الخطر الجدي على استقراره، وبالتالي على نظامه الذي يكاد يكون في مثل قوة إسرائيل..
وليس أسهل من التضحية بمن يعطى حكماً فلم يحسن سياسته..
ويشهد التاريخ السياسي للبنان أن نظامه كثيراً ما التهم من أبنائه من لم يعرف كيف يسوس الحكم،
أما «الدول» فكثيراً ما تبرع في رثاء أصدقائها الذين يسقطون من أجل تأمين مصالحها التي لا تهتم بالأشخاص، كائنة ما كانت ألقابهم!