كانت المبادرة منّي عندما اتصلت بطلال سلمان، من عمّان هاتفياً في نهاية الستينيات، على رقم «دار الصّياد» في بيروت، لأبلغه تقديري الكبير، وملاحظاتي على مقال له حول العمل والنضال والكفاح المسلّح الفلسطيني، في مجلة «الصّياد» اللبنانية، التي كانت في حينه، المجلّة السّياسية الأولى في العالم العربي. كانت تلك المبادرة رداً مني على ما عرفته من اتصال قيادي فلسطيني به منتقداً لذلك المقال، (وهذا حقّه) ومهدّداً له، (وهذا ليس من حقّه). انتهت المكالمة بدعوته لي الى بيروت، ودعوتي له الى عمّان. توافقنا على محاولة اللقاء والتّعارف.
تم ذلك.. لكن لا في عمّان ولا في بيروت، وإنّما في بهو فندق سميراميس في القاهرة، أثناء انعقاد دورة المجلس الوطني الفلسطيني في صيف سنة 1970، حيث كنت برفقة سعيد حمّامي، والكاتب والصحافي المصري، مصطفى نبيل، وكان طلال برفقة الصحافيين الكاتبين، الفلسطيني، فيصل حوراني، والمصري، مصطفى الحسيني، وانضم إلينا لاحقاً الصديق الصحافي مكرم محمد أحمد. كنّا ثلاثة مصريين، وثلاثة فلسطينيين، ولبناني واحد، هو طلال الذي تحدّث أكثر منا، مجتمعين.
خرجت من ذلك اللقاء الأول بانطباع أنه لا تُجاري لباقة طلال في الحديث، إلا لباقته في الكتابة واختيار عباراته. وبأنه لبناني حتى النّخاع، وعروبي ومصري الهوى حتى النهاية، وفلسطيني الالتزام أكثر من ذلك.
شاءت الظروف أن انتقلت بعد ذلك اللقاء بأسابيع قليلة إلى الإقامة في بيروت. وكان أول اتصال أجريته هناك مع طلال، والتقينا بعد ذلك بساعات. وبدأ دور طلال في التأثير المباشر على مجريات حياتي المهنيّة بشكل خاص. إذ عندما عرف سبب مغادرتي لعمّان وانتقالي إلى بيروت، ودون أن يسألني، اتصل بالدكتور وليد الخالدي، واتفق معه على لقاء صباح اليوم التالي، في مؤسسة الدراسات الفلسطينية. رافقته، وهناك قدّمني للدكتور الخالدي، وانتهت الجلسة بمغادرة طلال الى عمله في دار الصّياد، واستلمت وظيفتي باحثاً وكاتباً في المؤسّسة، وفي مجلّتها «دراسات فلسطينية» وقادني الدكتور وليد الى أقسام المؤسسة، وقدّمني وعرّفني على العاملين فيها، ثم سلّمني مكتبي هناك.
لم يكتفِ طلال بذلك، وبدأ في اقناعي بالكتابة في مجلة «الصياد» وكان أول مقال لي حول ذكريات الأحداث الجسام من ليلة 14/15 أيار/مايو 1967، حتى يوم 10 حزيران/يونيو التالي، ومجريات وتطورات تلك الأيام العصيبة، على الصعيد السياسي والعسكري والاجتماعي في إسرائيل، وانقلاب حالة المجتمع اليهودي هناك من مشاعر القلق والإحباط والتخوّف والتشاؤم، الى حالة الانتشاء و«السُّكْر» أيضاً، وتأثير ذلك على الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل، وانتقالها المذهل من حالة التفاؤل الكبير، إلى حالة الإحباط والتشاؤم. وقبِل طلال، بعد نقاش، أن ينشر ذلك المقال في «الصّياد» تحت اسم مستعار، هو «عدنان الجليلي» على ما أذكر.
ازداد إعجابي بطلال سلمان، وقناعتي بالتزامه العروبي الأصيل والنقي، عندما نصحني وبادر هو الى إرسال المقال/التقرير الصحافي الذي كان موضوعه تدمير وإغراق سلاح البحرية المصري للمدمّرة «إيلات» الإسرائيلية، يوم 21.10.1967، ومقتل 47 بحّاراً إسرائيلياً، وجرح 91 آخرين، باستخدام صواريخ بحرـ بحر لأول مرة في تاريخ الحروب، الى جريدة «الأهرام» المصرية، وقال لي يومها: رغم أن مصلحتي هي نشر هذا التقرير الصحافي الجيّد في الصيّاد، إلا أن نشره في الأهرام يعطي مردوداً إيجابياً أكبر.
تابع طلال تشجيعي على مواصلة الكتابة، ونتج عن هذا التشجيع أن بدأت، بإشرافه، بنشر مقال أسبوعي في مجلة «الصيّاد». وكان الدّرس الذي تعلمته منه، بعد نشر المقال الثالث أو الرابع، حيث دعاني الى مكتبه، واستفسر منّي عن جملة في ذلك المقال، فقلت له: «قصدي هو كذا وكذا».
قال لي: «هذا شيء جيّد. لقد اقنعتني وأعجبني قصدك. مبروك. لكن، تطبع مجلة «الصيّاد» وتوزِّع خمسة آلاف نسخة، يقرأها خمسة آلاف شخص على الأقل. مطلوب منك الآن أن تذهب الى كل واحد من هؤلاء وتشرح له قصدك. الكاتب الصحافي الجيّد، يكتب ما يقصده بشكل واضح ومباشر». هذا الدّرس الذي تعلمته من طلال، لم يفارق ذهني منذ تلك اللحظة. ولا أبالغ إذا قلت إنني أكاد أسمعه ويرن في أُذني كلما بدأت في كتابة أي مقال حتى اليوم.
على أن قدرات وكفاءة طلال سلمان تجلّت بأوضح صورها، عندما بدأ التحضير والإعداد لإطلاق جوهرة الصحافة اليومية العربية، جريدة «السفير». حيث استطاع استقطاب خيرة العقول والكفاءات الفكرية والسياسية والفنية العربية، من لبنان ومصر وفلسطين، حتى سوريا والعراق والأردن واليمن والخليج وتونس والجزائر وغيرها، لتشكّل معاً خليّة يضبط طلال سلمان إيقاعها: من الفنّان المصري المبدع، حلمي التوني، المخرج الفني لمجلّات «دار الهلال» المصرية، الذي وضع رسم الحمامة شعاراً لجريدة «السفير» الى إدارة الحوار والنقاش، في عصف فكري، يشارك فيه العشرات من الكفاءات العربية: من مُنح الصّلح، الى كلوفيس مقصود، ومصطفى نبيل، ومصطفى الحسيني، وعادل حسين، وإبراهيم عامر، وحسين حلّاق، وبلال الحسن، وميشيل سماحة، وحازم صاغية، من عصمت سيف الدولة، ورفعت السعيد، وغيرهم الكثيرون، ليُنتج كل ذلك العصف «جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان» و«صوت الذين لا صوت لهم».
ثم يتجلّى كل ذلك في صباح يوم صدور العدد الأول من «السفير» يوم 26.3.1974، معلناً هوية «السفير» بالمانشيت الأول: «ياسر عرفات في حديث شامل لـ«السفير»: نناضل من أجل السلطة الوطنية» وعناوين وصور الصفحة الأولى للإمام موسى الصدر، والرئيس صبري حمادة، والزعيم كمال جنبلاط، ومظاهرات الطّلاب في بيروت وطرابلس.
خلال أسابيع قليلة، أصبحت «السفير» بفضل كفاءة طلال سلمان، وبفضل قدرته على تجميع الوطنيين والقوميين العرب، من كل المشارب، هي «الجريدة» بـ«ال» التعريف.
كان طبيعياً أن تتعرض «السفير» بإدارتها ومكاتبها ومطبعتها للاعتداءات والتفجير. وكانت صلابة وقوة تأثير طلال سلمان، سبباً لملاحقة قوى الرّدّة له، ومحاولة، بل محاولات اغتياله، وإصابته في إحداها (سنة 1984) في الوجه، ولم ينحنِ طلال، ولم يغيّر اتجاهه والتزامه الوطني والقومي وقضيته الأولى قضية فلسطين وشعب فلسطين.
هذا هو طلال سلمان كما عرفته، وتعلّمت منه. كنت محظوظاً برفقة الراحل الكبير طلال سلمان. أنا حزين لفراق هذا الفارس الوطني والقومي الصادق الكبير. وداعاً طلال الحبيب… وداعاً طلال القامة الشامخة.
كاتب فلسطيني
موقع القدس العربي