يحتل طلال سلمان حيزاً رئيسياً في ذاكرة القارئ العربي.. الصحافي العصامي الذي أتى من المجهول ليشكل علامة فارقة في مهنة المتاعب يبقى، برغم السنين وصروفها، معْلَماً ومعلِّماَ في رحلة البحث عن الحقيقة..
قيل الكثير عن الكاتب الذي يمزج بحرفية بالغة بين السياسة والشعر.. ويبقى الكثير مما يتوجب قوله.. ثمة أيضاً جوانب متعددة تفرض نفسها كمداخل متمايزة لمقاربة تلك التجربة الثرية التي انطلقت من الصفر قبل أن تجعل من صاحبها رقماً صعباً في المعادلة المعقدة..
المركب الخطر
عبر طلال سلمان الكثير من الحواجز.. وتعايش مع العديد من الأماكن المظلمة قبل أن يدخل في عهدة الضوء.. الفتى الذي ركب مركب الكلمة الخطر طيلة عقود أمكنه لاحقاً أن يمتلك كلمته الخاصة في كتاب الحياة.. المبتدئ الذي صفَّ الأحرف في المطبعة يوماً، والذي صحَّح المفردات كي يستقيم المعنى، تحول، مدفوعاً بشغفه المقيم بالكتابة، إلى مفردة متفردة تنطوي على معان شتى..
الكتب الأربعة عشر التي أنجزها سلمان على امتداد عمره المهني تصلح كوسيلة لتأريخ مرحلة زمنية شابها الكثير من التعقيد، ولازمها المثير من الغموض، وتمخض عنها العديد من المفاجآت..
حكاية عشق
في العام 1985 نشر طلال سلمان كتابه “إلى أميرة اسمها بيروت”.. سلسلة من المقالات التي بدت أقرب إلى رسائل حبٍّ يدبجها عاشق يعتريه الكثير من الخجل، وتنتابه الخشية من أن تأتي كلماته قاصرة عن إثارة اهتمام معشوقته، تبدى الخوف جلياً على ملامح حروفه.. الخوف من أن تعجز أميرته الجميلة عن مواجهة الكثير من الموت الذي يحيط بها.. كانت بيروت حينها، كما هي غالباً، تعاقر القلق المصيري.. وكان مطلوباً منها أن تتنكر لتاريخها الطفولي الجميل.. فيما لم يكن لدى العاشق سوى كلماته ليدفع بها الأذى عن محبوبته.. اجتهد كي يكون لحروفه دويها المعبر.. كان متأملاً، وأحياناً متيقناً، بأن عباراته ستجد مكانها في خطوط الدفاع عن المدينة المثخنة بالجراح..
كما رصف طلال سلمان حروف المطبعة ليشهد ولادة الكلمة كذلك راكم مقالاته ليبني كتبه كعمارة شاهقة مطلة على الماضي ومبشرة بالمستقبل.. ثمة فجوة لا يمكن التغاضي عنها في جدار العمر الموشى بالكلمات: في الرابع عشر من تموز/يوليو 1984 تلقى العاشق بعض الرصاص المسدد إلى صدر معشوقته.. وكان على القلم أن ينزف دماً. عانق طلال سلمان موته المؤجل، ومضى صوب أميرته التي احتضنته كما يليق بعاشقين مولهين.. نجا الحالم وأمكن للحلم أن يزهو مجدداً..
لم تسع رسائل طلال إلى أميرته الفاتنة لحمايتها من الأعداء فقط.. هو تلمس الخطر المحدق بها من خلال مريديها أيضاً.. فأطلق صيحته الحانقة: تكون بيروت ملتقى المحبين جميعهم أو لا تكون..
عن ماضٍ لا يغيب
ما قالته رسائل الأمس عميق الصلة بما نشهده اليوم.. الخلافات المستحكمة بين أهل الحكم.. التنافر غير المحسوب بين اقطاب السلطة غير القابل للوقوف عند حدود المصلحة الوطنية الجامعة التي لا يبدو لها من أثر.. البحث العبثي الواهم عن حلول ومخارج لدى الآخرين سواء أكانوا قريبين أم بعيدين.. التاريخ الأسود يعيد نفسه وليس أمام الجغرافيا المتواضعة سوى الإنكماش حول ذاتها مذعورة..
في مضامين الرسائل ما يفضح عجز السلطة اللبنانية وضآلة قدراتها، وضمور هيبتها.. وليست تلك الصفة بالعابرة.. يمكن لبعض الهنات المزمنة التي تعانيها الدولة أن تكون مدعاة لطرافة مؤلمة، فهي تشي باستحالة معيقة لعبور هذا الكيان نحو مرتبة الوطن.. ثمة هزلية مبكية، يسعها أن تكون مأسوية مضحكة، تقيم على التحام عضوي مع مقدرات السلطة في البلد القاصر عن امتلاك رشده السياسي. بلد يمكن للمعارضة فيه أن تدخل الحكم محتفظة بكامل زخمها الإعتراضي، فيما يسع سلطته أن تقدم نفسها كمعارضة متجذرة بينما هي تقبض على مقدرات الهيمنة بنواجذها كافة..
يمكن لاستعادة مقالات طلال سلمان التي تضمنها كتابه “إلى أميرة إسمها بيروت” قبل خمس وثلاثين سنة أن تضيء على مفارقات حية لا تزال محتفظة بكامل مصداقيتها، كما لو أنها استجدت بالأمس فقط، بمثل ما يسعها أن تحيل إلى رهانات خاطئة تعكس مقداراً هائلاً من السذاجة يسيطر غالباً على الخيار السياسي، إذ هو يُبْنى على الرغبة المجردة، وينأى عن الاستدلال المنطقي لمسار الأحداث المتفاعلة، وصيرورتها المحتملة.
متعة الإنزلاق نحو الهاوية
في العام 1992 صدر كتاب لطلال سلمان بعنوان: “حجر يثقب ليل الهزيمة”.. يتضمن مجموعة من إفتتاحيات جريدة “السفير” بين العامين 1990 و1991 أي الفترة التي شهد العالم خلالها تحولات مفصلية وتطورات حاسمة كان اجتياح صدام حسين للكويت أحدها..
يضعنا الكتاب مجدداً أمام سياسة حافة الهاوية التي يبرع بعض الفاعلين في العالم العربي بالوقوف عندها لحظة، ثم الإنزلاق نحو أعماقها بكثير من سوء التقدير، وإنعدام القدرة على التوازن في الظروف الحرجة. وهو مشهد عربي متكرر يستدعي التفكير في دوافعه الكامنة.
تتمحور المقالات عند قرار صدام حسين باجتياح الكويت، وامتناعه عن تقبل النصح بالتراجع عن الخطوة القاتلة.. أما استعادة الموقف بعد ثلاثة عقود فتضيف إلى المخيلة صوراً لحكام آخرين أصروا على ارتكاب خطيئة مماثلة، فدفعوا ببلدانهم نحو الهاوية نفسها، وحكموا على شعوبهم بمعاناة تكاد تكون أبدية الطابع. دائماً ثمة متسع في قعر المشهد التاريخي لبلاد يقودها ديكتاتور متسلط نحو حتفها الموجع. في خاتمة إحدى مقالاته يطرح طلال سلمان سؤالاً صافعاً: “… وعلى فرض أنَّها الحرب، وعلى أرضك وبدمك فما شأنك أنت أيها المنتحل صفة المواطن حيث لا وطن ولا مواطن خارج الحاكم”؟! سؤال لا يزال قائماً برغم قسوة السنين ومرارة الإجابات.. بل لعله صار أكثر مشروعية مع تجارب شتى مستنسخة وفق ايقاع زمني رتيب.
يوم تقطعت السبل
شهد العام 1995 صدور كتاب طلال سلمان المعنون “الهزيمة ليست قدراً”.. في مطلع الكتاب يكون على القارئ أن يعود بالذاكرة إلى يوم الثلاثاء بتاريخ 11 أيار/مايو من العام 1993 عندما أصدر مدعي عام بيروت الإستئنافي فوزي أبو مراد قراراً يقضي بوقف جريدة “السفير” عن الصدور لمدة أسبوع بتهمة نشر وثيقة تعود إلى المفاوضات اللبنانية- الإسرائيلية المنعقدة في واشنطن حينها. حل ناشر الصحيفة المتوقفة مع عدد من أركان جريدته ضيوفاً على جريدة “بيروت المساء” طيلة فترة التوقف.
حادثة تدفع المتابع نحو سؤال الحرية ومشروعية التعبير.. تطرح القضية التي تشكل اليوم محوراً رئيسياً من محاور الإهتمام: ماذا عن حيادية القضاء واستقلاليته؟
بينما يعرض سلمان لمثول صحيفته أمام المحكمة يجد نفسه مدفوعاً للتساؤل عن أصحاب السلطة الذين يجدون أنفسهم فوق القوانين كلها.. يتحدث عن “الثلاثة الذين يصرون على هدم ما تيسر بناؤه من معالم الدولة”.. يتناول “الطائفية التي تلغي الدولة”.. وعن تلك الطرفة الموجعة التي تجعل “غلاة المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية هم أعظم المستفيدين من سيادتها”.. وكمن يحدِّت نفسه بصوت عال يصرخ طلال سلمان: “كيف السبيل إلى حماية مشروع الدولة من أصحاب الدولة؟ كيف السبيل إلى استيلاد المواطن من رحم الطائفة التي يختزلها رجل فرد بكل نزواته وأغراضه وأحقاده الصغيرة”؟!
اليوم بعد ثلاثة عقود من تلك الصرخة يجيب الصدى أن السبل قد تقطعت باللبنانيين في طريقهم نحو المواطنة.. كما فعلت بعرب آخرين أيضاً.. وما من درب يقود نحو الغد.
ثمة ما يستحق الإشارة إليه في هذا السياق يتعلق بالعلاقة المتأرجحة بين الصحافي والسياسي.. في الإفتتاحيات التي كتبها ناشر “السفير” على صفحات “بيروت المساء”، خلال الأسبوع الذي توقفت فيه جريدته عن الصدور، يقع القارئ على غمز كثير من قناة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ووزير العدل بهيج طبارة، وتحميلهما المسؤولية عن قمع الحريات الإعلامية.. لاحقاً بتاريخ 31-8-1996عشية الإنتخابات النيابية العائدة بعد تمديد طويل للبرلمان المنتخب عام 1972، سيكتب سلمان مقالاً يحمل عنوانه اسم رفيق الحريري، وينطوي على إشادة لا متناهية بمناقبية الرجل وتميزه عن سائر العاملين في الشأن العام.
الأمل في إقامته الجبرية
في العام 2002 كان كتاب طلال سلمان: “عن الديمقراطية والعروبة والإسلام”.. هذه الثلاثية التي ستؤول إلى حالة من التضاد والتنافر بين مكوناتها.. وستحيل إلى صراع صفري لا يملك أي طرف من أطرافه القدرة على حسمه.. يحتوي الكتاب على مقتطفات من مقالات الكاتب الإفتتاحية بين العامين 1996 و2001
بين مقالات الكتاب واحدة مؤرخة في 29-5-1997 وهي تبحث في دلالة وصول رجل الدين المنفتح محمد خاتمي إلى منصب الرئاسة الإيرانية.. حيث كان للأمر أن يعني حينها تطوراً إيجابياً في مسار الدولة الأكثر صخباً على مستوى المنطقة، وأحياناً على صعيد العالم بأكمله.
وصف سلمان الحدث الإيراني ب”الثورة داخل الثورة”.. وبأنه “عودة إلى الينابيع”. تناول الصراع الكامن بين الثورة والنظام في الجمهورية التي اتخذت الإسلام صفة لها..
يستشهد الكاتب في مقالته ببعض ما صاغه خاتمي في كتبه وأحاديثه الصحافية: “ألم يخض الدين، طوال تاريخ الإسلام، الصراع ضد الإستبداد، بما فيه الديني وغير الديني”؟! ثم يذهب إلى ما هو أكثر تعبيراً عن جوهر الأزمة: “لم يرض الإسلام على مدى تاريخه الباهر باستراتيجية المنع في الميدان الثقافي والفكري”..
اليوم، على بعد عقدين ونيف من تلك المقاربة المتفائلة والمستبشرة، يظهر السراب على حقيقته الممعنة في الجفاف، ويجري التحفظ على الأمل المنشود داخل الإقامة الجبرية.
لبنان: الشقيق المحبب
“على العرب أن يتفقوا فيتحدوا في مواجهة المخاطر التي تتهددهم وإلا فإن مصيرهم في خطر جدي”. هذا بعض ما جاء في كلام العاهل السعودي الملك الراحل عبدالله في حوار صحافي أجراه معه طلال سلمان خلال وجوده في بيروت بتاريخ 20-6- 1997 وكان حينها ولياً للعهد.
بشفافية أقرب إلى البوح يقول الملك الراحل: “لبنان عزيز علينا.. إنه حبيب العرب جميعاً.. وهو ضرورة لهم جميعاً. دائماً تمنينا له الخير ولا يجوز أن يترك لبنان أو يصار إلى التخلي عنه”.
ويسأل الملك عندما تستعصي عليه الإجابة: “لماذا يتعذر اتفاقنا ولو على الحد الأدنى؟ ألسنا جميعنا عرباً؟ أليست مصالحنا مشتركة ومتداخلة”؟ ثم يتلمس الجواب: “أحياناً قد يتورط طرف في إيذاء نفسه لإيذاء إخوانه”.. سيكون لهذا القول تتمة تؤكده..
استعادة كلام الماضي تحيل تلقائياً إلى كلام موازٍ سيقال لاحقاً.. كما هي تستثير التساؤلات حول ما سيكون عليه الأمر بعد أن يتحقق الكثير مما قيل.. ويتهاوى الكثير مما كان يتوقع حصوله.. تبدو هذه القراءة المركبة محكومة بالترقب والمقارنة والمحاكمة والتساؤل. هي لا تهدف إلى استعادة التاريخ فقط، لكنها تسعى إلى استيعاب الحاضر من خلاله.. إنها تجربة لا تخلو من الإثارة: أن تقرأ الراهن بمفردات الماضي وتعابيره وإيحاءاته الملغزة.. حيث لا يسعك أن تكون محايداً في استيعاب المعنى، ذلك أنك ستغدو ملزماً بوضع الأمور في سياق ما آلت إليه لاحقاً أي: راهناً.
هوامش المنسيين
إثر ذلك، وعلى مراحل متعددة، صدرت لطلال سلمان أربعة أجزاء من سلسلة “هوامش في الثقافة والأدب والحب”. التي كان يكتبها أسبوعياً، ليخرج عبرها من السياسة نحو اهتمامات أخرى أقرب إلى قلبه.
في الهوامش بدا الكاتب أكثر حرية في اختيار مواضيعه: تحدث عن أبطال صنعتهم التجارب ولم تسوقهم وسائل الإعلام.. كشف عن شخصيات مختبئة في دهاليز الحياة المظلمة التي خلت من الأضواء المبهرة.. واستدعى اسماء خافتة ليثير حولها كثيراً من الصخب المحبب.. على هوامشه تلاقى أهل النخبة مع المنسيين حيث لم يكن لأحدهم من فضل على سواه سوى بما يحفره من أثر طيب في الذاكرة..هنا يمكنك العثور على ابراهيم مرزوق الرسام، وأريك رولو الصحافي، وعادل اسماعيل المؤرخ في مشهدية واحدة.. ثم يسعك الطواف في معرض للحكايا يتجاور على جدارنه لويس عوض مع زاهية قدور وليلى عسيران فيما قاسم حداد يروح ويغدو بشِعْره الأنيق، وأمين الريحاني يشذب أغصان اللغة، ليطل محمد السويدي منشغلاً بتسجيل أبيات المتنبي بصوت عبد المجيد مجذوب على رقائق الكترونية.
هنا يبدي الكاتب شهية واضحة في الإستفاضة بالبوح عن تفاصيل معبرة.. عن دقائق صغيرة وبسيطة تتشكل منها الحياة في جانبها النقي.. هو يمارس إنحيازاً فاضحاً للصفاء الإنساني غير الملوث برغبة الوصول وخيبة الإنكفاء.. الحياة على الهوامش امتياز لا يحظى بمتعته أولئك المنخرطون في زحمة السباق نحو العدم.
الغد كأمسٍ مترهل
في كتاب “سقوط النظام العربي من فلسطين إلى العراق” الصادر عام 2004 نقع على مقالات مختارة لطلال سلمان نشرت في العامين 2002 و2003.
أول ما يثيره الكتاب في ذهن قارئه هو ذلك الإحساس اليقيني بأن اليوم إنما هو نسخة مترهلة عن الأمس.. التعقيدات هي نفسها.. الآمال والأحلام ذاتها وقد اعترى أي توقع بتحققها مزيدٌ من السذاجة.. حتى الملفات والمصطلحات لم تتغير، ولا يبدو أنَّ ثمة قابلية لذلك التغيير. في لبنان صراع بين أهل الحكم.. خلاف على النفوذ، وسباق نحو الفوز بالمغانم.. في دنيا العروبة فلسطين تمعن في النأي.. والعراق حيث النصال المحلية تتكسر على مثيلاتها الإقليمية والدولية..وفي الإقليم ألسنة النيران تهدد اليابس وحده بعد أن صار الأخضر من الذكرى..
يستعيد الكتاب قمة بيروت العربية في العام 2002 ومعها مبادرة الأمير عبدالله بن عبد العزيز للسلام على قاعدة الإعتراف العربي باسرائيل، وبناء علاقات كاملة معها مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة في العام 1967 ، المقالات التي كتبها طلال سلمان آنذاك تستعيد حكاية الحصار الذي تعرض لها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات في رام الله، والعنف الدموي الذي مارسه رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون حيال فلسطيني الضفة والقطاع.. والحرب على العراق التي جعلت منه ساحة نزاع مفتوحة الأبواب..
بعد العراق هناك سوريا وقد شهدت المرحلة فتح ملفاتها..
في العام 2003 نشهد تحولاً في طقوس العنف نحو المملكة العربية السعودية.. البلاد الآمنة التي سعت دوماً لاحتواء أشقائها وحمايتهم حتى من أنفسهم تتعرض عاصمتها الرياض بتاريخ 12 مايو/أيار 2003 لهجوم إرهابي بالغ العنف.. كان سهلاً حينها اتهام أسامة بن لادن بالمسؤولية عن الهجوم، وهذا ما عبر عنه مقال سلمان حينها.. لكن المستجدات اللاحقة ستشير إلى جهات مخططة وداعمة ومساعدة.. كان مطلوباً من المملكة أن تتخلى عن كونها حاضنة للإلفة ومحطة للوئام.. اليوم على بعد قرابة العقدين من الحادثة لاتزال المحاولات جارية.. وإن جرى استبدال الوسائل والأذرع بأخرى رديفة لها.
التاريخ ليس مجرد زمن مضى.. إنه الحاضر مشتتاً بين الأحداث والتفاصيل والمواقف.. وسيكون المستقبل أيضاً إذا لم تخضع ملابساته لمجهر التدقيق والتمحيص..
أسوأ ما يمكن أن يصيب قوم هو أن يكون غدهم استمراراً لأمسهم دون أن تتوافر لهم القدرة على تنقيته من الشوائب والنقائض..
في الزمن الرمادي
في العام 2012 صدر لطلال سلمان كتاب بعنوان: “مع الشروق”. وكان قد حل حينها زمن رمادي كئيب.. أبشع ما فيه أن اللغة تضاءلت بين جنباته الضيقة.. لم يعد هناك ما يقال سوى أن الأزمة خانقة.. وأن القادم أشد سوءاً.. زمن رثائي تقعرت فيه الملامح.. وغرقت خلاله العيون في المحاجر.. زمن الضياع بين الثورة وبين التفتت الطائفي والمذهبي.. تقسَّم السودان.. واقترب العراق من المصير نفسه.. كذلك بدت سوريا مقبلة على التشظي.. فيما لبنان يسير على ايقاعها المضطرب.. دخل اليمن في سعار مخيف.. ولاحت فلسطين من بعيد مقبلة على الضمور والتلاشي.. بدا كما لو أن العرب قد دخلوا في يوم آخر غير اليوم الذي بكوا منه ولم يعد أمامهم سوى أن يبكوا عليه.
وفي مصر، قاطرة العمل العربي وحاضنته الأرحب، بدا المشهد مثيراً للهواجس: حركة الإخوان المسلمين تسيطر على الحكم، وبوسع أمر مماثل أن يحيل إلى انعدام في الرؤية وإلى تيه في المسير والمصير.. وأن يعلن الإنطلاق في رحلة شائكة نحو رحاب المجهول..
البحر الأبيض المتوسط يكتسب دلالة استراتيجية اضافية بعد الكشف عن اختزانه للنفط والغاز.. ويصير للصراع مع اسرائيل بعده الاقتصادي الصريح.. كما يكون على الجغرافيا أن تتوافق مع المتغيرات الحاصلة.. أنظمة تضحي برؤوسها لتحافظ على وجودها، وتيارات سياسية ملتبسة التوجهات تدعي ملكية الميادين ولو بالتزوير والتزييف.
سوريا في مهب الريح
في العام 2014 نشر طلال سلمان كتاباً بعنوان:”وطن لشعوب كثيرة”. وهو عبارة عن مختارات من افتتاحياته المنشورة في “السفير” بدءاً من بداية العام 2012 كتاب يصلح لتأريخ مرحلة تفاقم الأوضاع في سوريا وخروج أمورها عن السيطرة، ومجاهرة الكثير من حلفاء النظام السوري، بينهم سلمان نفسه، بمطالبة هذا النظام بإصلاحات تمنح الشعب السوري ما يحتاجه، ويستحقه، من شروط الحياة الكريمة. وهو ما لم يأخذ به النظام الذي اعتبر أن أي مراجعة لآدائه تعني تراجعاً أمام المعترضين عليه، واعتبر أيضا انه مهما فعل فإن سوريا ستواجه حربا كونية يتعلق بدورها وبتحالفاتها.. فقرر التصعيد في الصدام دافعاً بالأمور نحو حافة الهاوية
واندثر الرمز
وفي العام 2014 أيضاً صدر الكتاب الأخير لسلمان تحت عنوان: “العرب خارج عروبتهم”، هو يمثل محاولة للنظر في النصف الممتلئ من كأس التغييرات التي شهدها العالم العربي في الفترة الماضية.. بقدر من التحفظ يشير الكتاب إلى تحولات يمكن الإعتراف بإيجابياتها طرأت على بعض الأنظمة العربية بفعل المستجدات الحاصلة، في مقدمها غياب أسطورة القائد الرمز الذي يحيل المحيطين به إلى أشباح.. وانحسار مفهوم الحزب الحاكم وهو يعني هيمنة حفنة من الوصوليين على مقدرات الدولة وتحويلها إلى غنائم وممتلكات فردية.
للسيرة أيضاً مكانها
بموازاة الكتب التي تشكل تأريخاً للمرحلة الزمنية الماضية يمثل كتاب: “كتابة على جدار الصحافة” الصادر عام 2012 نوعاً من السيرة المهنية غير المكتملة لطلال سلمان.. يعرض الكاتب من خلاله لمسيرته في العمل الصحافي حيث بدأ من التصحيح اللغوي، وصف الأحرف، قبل أن يتعرف إلى الراحل سليم اللوزي ليجد مكاناً له في مجلته “الحوادث”. بسرعة سيتدرج الصحافي الناشئ في المجلة الطليعية ليشغل منصب سكرتير التحرير قبل أن يكمل العشرين من العمر.. لاحقاً سينتقل إلى مجلة “الأحد” العائدة لنقيب الصحافة الأسبق رياض طه، وهناك ستواجهه أزمة الطموح السياسي الذي يتحكم برياض طه، ويدفع به نحو تسخير مطبوعته لدخول الندوة النيابية بما يضعها في مناخ من البؤس المهني المثير للشفقة.
بينما هو يحاول إزالة آثار العدوان الإنتخابي عن ملامح المجلة يتعرف طلال سلمان إلى أحمد الصغير جابر، ممثل جبهة التحرير الوطني الجزائري في بيروت.. أبدى حياله حفاوة استثنائية تعبيراً عن المكانة المميزة التي تشغلها الجزائر في وجدانه، بسرعة ملحوظة صار الرجلان صديقين مقربين.. وبسرعة مماثلة وجد طلال سلمان نفسه قيد الإعتقال والمحاكمة بتهمة التعاون مع عميل لدولة معادية ينتحل صفة ممثل للثورة الجزائرية..
يمضي أياماً صعبة في السجن، حيث يتعرف إلى نماذج بشرية صالحة لأن تكون شخصيات من عالم روائي آسر.. يلتقي بعد الإفراج عنه بالناشر الكويتي عبد العزيز المساعيد الذي يعرض عليه السفر إلى الكويت لمساعدته في تأسيس مجلة سياسية تحمل اسم “دنيا العروبة”. وافق سلمان ليخوض تجربة غنية لكنها جاءت أقصر مما كان يتوقع. عاد بعدها إلى بيروت ليعمل مديراً لتحرير مجلة “الصياد” وهناك كان يتلقى رسائل من كاتبة جزائرية تدعى زهور ونيسي تتضمن بعض نتاجها الإبداعي.
لاحقا تلقى سلمان رسالة مشتركة من وزيرة الثقافة الجزائرية زهور ونيسي، ومن زوجها أحمد الصغير جابر..
بينما أنت تفرغ من قراءة آخر كتب طلال سلمان يكون عليك أن تستعيد بعض ملامحه التعبة. تحدق في ذلك الوجه الأسمر المزدحم بالتفاصيل لتكتشف فعل الزمن في حياتك المضنية..
ينشر بالتزامن مع موقع 5نجوم