“في البدء كانت مصر. لم تكن الصحافةُ في لبنان لتكونَ ما هي عليه لولا مصرُ وما حصل فيها. العلاقة بين مصر ولبنان أكبرُ ممّا يمكن أنْ يتخيّل الكثيرون. غسان التويني نفسه كان في مصر، قبل أنْ يأتي ليؤسّس صحيفة النهار. في ذلك الحين، كانت الصحافة المصريّة هي الصحافة الوحيدة الموجودة في العالم العربيّ. كان كامل مروّة قد انطلق في دايلي ستار، فيما أسّس جورج نقاش لوريان لوجور. في أوائل الخمسينيّات جرت جملةٌ من المحاولات لتأسيس صحف، لكنّ أغلبها باء بالفشل.
“لعبد الناصر فضلٌ على الصحافة اللبنانيّة وصحافيّي لبنان. فهو من القلائل الذين عرفوا أهمّيّةَ الصحافة في الضفّة الشرقيّة للمتوسّط، وفي بيروت تحديدًا. وهو اعتبر الصحافة في بيروت بمثابة “أوبارلور” (مكبِّر صوت). كان يخطب في القاهرة، فتنقل الصحافةُ اللبنانيّةُ خطاباتِه، ثمّ تأتي الصحافةُ المصريّة ذاتُها فتنقل عن اللبنانيّة بعضًا ممّا أوردته! ثمّ إنّه دعم العديدَ من المجلّات والصحف، مثل الكفاح العربّي (لرئيسها رياض طه) والمحرّر والحريّة والأسبوع العربيّ.
“في أواخر الخمسينيّات حصلتْ في لبنان طفرةٌ صحفيّة. جاء ذلك مترافقًا مع وقائع السياسة المتسارعة في المنطقة. فإعلانُ حلف بغداد (1955)، ثمّ العدوان الثلاثيّ (1956)، ومن ثمّ إعلان قيام الوحدة بين سوريا ومصر (1958)، فضلًا عن السياقات الدوليّة والإقليميّة التي عاشتها منطقتُنا، كلُّها عواملُ دفعتْ بالنهضة الصحافيّة اللبنانيّة قُدُمًا. وكانت بوادر تلك الطفرة، في الحقيقة، قد ابتدأت مع انطلاق صحيفة الأنوار (لسعيد فريحة)، ثمّ تلاها عدد من الصحف والمجلّات التي عبّرتْ عن توجّهات جمال عبد الناصر، وهو الأمر الذي أرخى بتداعياته على المنطقة كلّها.
“هذا، بالطبع، لا يُلغي دورَ الصحافة آنذاك في سوريا والكويت والعراق مثلًا، لكنّ الصحافة العربيّة كانت فقيرةً بشكل عامّ (في بغداد، على سبيل المثال، انشغلت الصحافةُ بعبد الكريم قاسم، وبعد العام 1963 دخلتْ نفقًا مجهولًا انتهى بوصول صدّام حسين إلى السلطة، فلم يكن بإمكان العراق أن يتجاوز – بتأثير صحافته – حدودَه). من هنا تضاعفتْ أهمّيّةُ بيروت، وأهمّيّةُ تبادل الصوت بين العاصمة اللبنانيّة والقاهرة. كانت بيروت تكتب، فتنقل عنها القاهرة، ثمّ تعود بيروت لتكتب نقلًا عن القاهرة، بالنحو نفسه الذي كانت فيه صحيفةُ الحياة تقوم به تجاه الحكم السعوديّ.
“في الستينيّات شهد لبنان نشاطًا صحفيًّا وثقافيًّا كبيرًا، عبّرت عنه جملةٌ من دُور النشر والدوريّات والجمعيّات والاتحادات. وفي تلك المرحلة بالتحديد، بدأ الغربُ يهتمّ بالصحافة اللبنانيّة للردّ على قوى التحرّر، وبدأ بدعم لوريان لوجور والنهار والحياة. ثمّ صار يشنّ، من خلالها، الهجومَ تلو الهجوم على عبد الناصر. كان الإعلام جزءًا من المعركة السياسيّة في لبنان.”
***
يستذكر الأستاذ طلال سلمان تاريخَ تجربته الصحافيّة ما قبل جريدة السفير. فقد عمل في جريدة الشرق (خيري بك الكعكي) في أواخر العام 1957، ثم انتقل إلى مجلّة الحوادث بعد أحداث العام 1958 في لبنان. ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فقد لعبت الأحداث آنذاك دورها في تقريبه إلى سليم اللوزي، رئيسِ تحرير الحوادث. لكنّ التقارب لم يبتدئ سياسيًّا أو مهنيًّا، كما ينبغي أن يبتدئ. يشرح سلمان:
“بدأ تقاربي مع اللوزي عند نزول مظاهرات كبيرة في بيروت ضدّ كميل شمعون، في منطقة أرض جلّول. فقد كان بيتُه في شارع حمام، وحين أطلقت الشرطةُ النارَ على المتظاهرين، أصيب منزلُه إصاباتٍ مباشرة، وجُرحتْ عاملةُ منزله.
“كان اللوزي معارضًا شرسًا للنظام، وسُجن في سجن الكارنتينا. وصودِف أنْ كان أبي مديرًا للمخفر هناك. فكانت تلك الحادثة فاتحةَ التواصل بيني وبين اللوزي، ودخلتُ الحوادث وبقيتُ فيها حتّى العام 1959.
“عندما غادرتُها، انضممتُ إلى فريق صحيفة الأحد، ثم إلى مجلّة دنيا العروبة في الكويت عام 1962. لكنّي رحلتُ عن الكويت سريعًا، بعد أنْ حُجِز جوازُ سفري. فعدتُ إلى لبنان واشتغلتُ مع سعيد فريْحة في الصيّاد. وهناك، تعرّفتُ إلى غسّان كنفاني.”
***
يستذكر طلال سلمان الأستاذ أحمد السمير جابر، الشابَّ الجزائريّ، الجادّ والدمث، “وأذكى مَن التقيتُ في حياتي،” على حدّ تعبيره. كان أحمد ذاك مندوبَ الثورة الجزائريّة في بيروت. وكان يطوف على السياسيين والصحفيين ويقدِّم لهم صورًا عن الثورة، لكنّه سرعان ما مدّ علاقاتِه ليطول الوسطَ اللبنانيَّ بأسره. وقد دفعت الثورة الجزائريّة بالأستاذ سلمان إلى المزيد من التقرّب من جابر. لكنّ ما حصل مع ذلك الشابّ كفيل بإفهامنا الجوّ السياسيّ والإعلاميّ في بيروت في تلك المرحلة:
“ففي إحدى ليالي الصيف، ألقى الأمنُ العامُّ اللبنانيّ القبضَ على جابر. ولأنّ محفظته كانت في منزلي، فسرعان ما اقتحم الأمنُ العامّ منزلي وزجّني في السجن. كانت تلك الأيّام هي الأكثر تأثيرًا في شبابي. أقمتُ في ’النَّظارة‘ أسبوعًا تقريبًا، ثم نُقلتُ لمدّة خمسة عشر يومًا إلى زنزانةٍ انفراديّة. المفارقة أنّني، عند إحالتي على المحكمة، شاهدتُ قرابة خمسين شابًّا موقوفين بتهمٍ مختلفة، منهم جنوبيّون لبنانيّون أُوقِفوا لحيازتهم بندقيّةَ صيد؛ فقد كان أمنُ العدوّ الإسرائيليّ خطًّا أحمر بالنسبة إلى النظام السياسيّ اللبنانيّ، إلى حدّ منعه الجنوبيين من حيازة بندقيّة صيد خوفًا على ذلك الأمن!”
***
عند سؤال الأستاذ طلال سلمان عن تلك المرحلة سياسيًّا وما تركته من آثار في الصحافة أجاب:
“كانت هناك وجهةٌ أساسيّةٌ للسياسات العامّة، مثّلتْها مصرُ أيّام عبد الناصر، في حين كانت السعوديّة قد ورثتْ ميراثَ الهاشميين. هكذا صارت القسمة واضحةً في الوطن العربيّ: بين تيّار تقدّميّ عروبيّ، وخطٍّ مرتهنٍ للغرب.
“والحقّ أنّ تلك المرحلة شهدت انتعاشًا لحركة القوميين العرب والتيّار العروبيّ. كما شهدتْ معاركَ عربيّة – عربيّة، مثل مواجهة عبد الكريم قاسم مع عبد الناصر من جهة، ومع الهاشميين من جهة أخرى، ثمّ ما وقع بعدها من محاولة لاغتيال عبد الناصر في دمشق بتدبير من السعوديين. ثمّ تفكّكتْ دولةُ الوحدة، وانتصرت الثورةُ الجزائريّة عاميْ 1961 – 1962، ثم ثورة اليمن بقيادة السلّال، ومن بعدها الثورة الليبيّة عام 1969. المقصود من كلامي هو أنّ المنطقة كانت تعيش نوعًا من الغليان وجملةً من التغيّرات التي تدفع إلى السطح بالتيّار العروبيّ.
“بعد وفاة عبد الناصر تغيّر كلُّ شيء، بما فيه الصحافة. العالم العربيّ تغيّر. راح عبد الناصر، فراح المركز والعصب، وابتدأ التفكّك. وفي تلك المرحلة تحديدًا، انطلقت السفير.”
***
طلبنا إلى سلمان أن يحدّثنا عن الأيّام الأولى من السفير فقال:
“ذات يوم، جاء أحدُ الأشخاص من ليبيا، وكان هناك مشروع لتأسيس مؤسّسة صحفيّة كبرى. كان معمّر القذّافي ينظر إلى نفسه في تلك المرحلة على أنّه الوريثُ السياسيّ للرئيس جمال عبد الناصر. اتّصل ذلك الشخص بمجموعة صحفيّين في لبنان، وأنا منهم، ثمّ حدث في اللقاء أنْ اتفقنا على إقراضي قرضًا لإطلاق صحيفةٍ ما، على أن أوفي القرضَ بعد انطلاقة الصحيفة. وهكذا صار، إذ أقرضوني قرابةَ مليون وأربعمائة ألف ليرة، وابتدأتُ التحرّكَ حينئذ لتأسيس السفير.
“كنتُ أعتقد حينها أنّ المبلغ سيتيح لي التحرّكَ بشكل مريح لتأسيس صحيفةٍ تمتدّ لسنوات. لكنْ وقع ما لم يكن في الحسبان، إذ لم يبقَ من المبلغ الذي استلفتُه أيُّ شيء بعد سنتين من تاريخ تأسيس الصحيفة!
“وكنّا قد أخذنا امتيازَ السفير من شقيق البطريرك الحويّك (الذي عاد بعدها إلى كتابة زاويةٍ بعنوان: ’قلْ ولا تقلْ‘). لكنّ الإشكال عندي كان في اسم الجريدة: السفير. أذكر يومها أنّني ذهبتُ للقاء الأستاذ محمد حسنين هيكل (وكنتُ أعرفه منذ العام 1960)، وعبّرتُ أمامه عن عدم قناعتي بالاسم، فقال لي: ’بلاش زعل، أنت إذا نجحْت، الناس حتتبعكْ، وتقتنع بالإسم وبِيكْ‘.”
ويتذكّر سلمان أنّه ذهب إلى شركة التوزيع الخاصّة بجريدة النهار، التي كان يديرها شقيق غسّان تويني، وطلب منه توزيعَ السفير. وعندما سأله التويني عن عدد النسخ اليوميّة التي عزم سلمان على استصدارها، أجابه: “5000 نسخة.” فأقتنع التويني به، وتحمّس لـ”واقعيّة” سلمان.
***
وعن السفير والحرب اللبنانية قال سلمان:
“صبيحة 26 شباط 1974، كانت المقاومة الفلسطينيّة قد صارت كلّها في لبنان. وكانت الدولة قد ضعفتْ بشكل كبير أواخرَ عهد الرئيس سليمان فرنجية. لذا كان الصدامُ واضحًا، وهذا هو الجوّ الذي نشأتْ فيه السفير.
“لا زلتُ أذكر يوم الصدور. كان إيلي الباز، صاحبُ المطبعة وشريكي فيها، قد أجرى عدّة تجارب على نماذج تجريبيّة. وعشيّة السادس والعشرين من شباط 1974، وبعدما أنهينا، أنا وفريقُ العمل، كتابةَ العدد الأوّل بتمامه وكماله، نزلنا إلى المطبعة معًا. كانت المطبعة جديدة، وكان الناس قد توافدوا أمامها بانتظار صدور النسخة الأولى من الصحيفة.
“فجأةً، وقع ما لم يكن في الحسبان. فبعد أن جهّزنا كلَّ الترتيبات التقنيّة، فوجئنا بعطلٍ أصاب المطبعة. حاولتْ فِرقُ الصيانة العملَ للتأكّد من سلامة كلّ الآلات، ولم تستطع تحديدَ سبب العطل، وما زلنا نجهلُه إلى اليوم.
“بقينا منتظرين في المطبعة، ومعنا الناس، حتى الخامسة والنصف فجرًا. لا زلتُ أذكر حالتي عندما بدت المشكلةُ مستعصية. لم أستطع أن أحبس دمعتي، فبكيت. ثم أشار عليّ أحدُهم بالذهاب إلى مطبعة نداء الوطن، بالقرب من فندق الكارلتون، حيث يمكن أنْ نتدارك الأمر.
“أخذنا كاملَ ’عتادنا‘، وخرجنا إلى مطبعة نداء الوطن. لكنّ الأمر نفسه حصل هناك، ويا للغرابة! بقينا نحاول حتّى الساعة السابعة صباحًا، عندما أخبرونا في المطبعتيْن معًا أنّهما بدأتا بالطباعة في الوقت نفسه!”
***
سألناه عن شخصيتين سياسيتين أرْختا بظلّهما فوق السفير ما بعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان سنة 1982، فقال:
“لا يمرّ الحديثُ عن لبنان ما بعد العام 1982 من دون العروج إلى شخصيّتين أساسيّتين: رفيق الحريري وحافظ الأسد. بإمكانك أن تختلف مع الأوّل وتخاصمَه، لكنْ من الصعب أن يفارقَكَ أو يجافيك. كان رفيق الحريري مختلفًا عن سياسيّي لبنان على مستوى طباعه الشخصيّة. يَحْبُكُ الرجل صورتَه والمسافةَ الفاصلة بينه وبين أيّ صحفيّ، أو إعلاميّ، بطريقةٍ حذقة. وهو يبقى قريبًا منك مهما بعُد.
“أمّا حافظ الأسد، فشخصيّةٌ قلّ نظيرُها. كان له أسلوبُه الخاصّ في التعاطي مع الشأن اللبنانيّ. كثير الحذر والثقة في آن. حَسَنُ الإصغاء، حذقُ الفهم. لكنّه ما إنْ يثق بك حتّى يخبرك ما لم تكن تتوقّعه.”
يستذكر طلال سلمان حكاياه مع الأسد والحريري: كيف أخبره الأسد مرّةً عن زيارة نيكسون له، ومخاوفه من كيسنجر. ثم يعود ليحدّثك عن الحريريّ الأب: كيف تخاصم معه مرّات ومرّات، وكيف عاودا وصلَ ما انقطع.
***
حين نسأل الأستاذ طلال، ختامًا، عن حال الصحافة اليوم، يقرّ بأنّها لم تعد كما كانت بالأمس:
“لقد فقدنا، كعرب، مصرَ، يوم نحَتْ بسياساتها نحو مسار ’السلام‘. ثمّ تتالت النكباتُ والأزماتُ علينا، لننتهي إلى ما وصلنا إليه. ماذا تقدِّم الصحافة اليوم؟ أيَّ مشروع تحمله هذه الصحافة؟ ماذا تريد أن تقول؟ من تريد أن تنتقد؟ ثم ماذا بعد الانتقاد؟
“الجواب دونما مبالغة: لا شيء. لقد أفلَتِ الحقبةُ التي كانت فيها الصحافةُ جزءًا من بناء الواقع، وإحدى جبهات العمل السياسيّ. الحال مختلفة بعض الشيء اليوم، لا بل إنّها مختلفة تمامًا، حتّى لا يكاد أحدُنا يصدِّق أنّ أمسَنا هو ما أنتج واقعَنا اليوم.”
خلاصة حوار أجراه:
عُبادة كَسَر وبشار اللقيس