طلال سلمان

طلال سلمان.. صياغة وعينا السياسي المبكر

أنتمي لجيل له خصائص مختلفة عن الأجيال السابقة، التي جاءت للحياة في النصف الأول من القرن الماضي، وهي الأجيال التي عاشت أحلام السياسة، وآمال التغيير الواسع للبنى الجغرافية السجّانة لشعوبها. وربما نكون نحن أبناء ستينات القرن الماضي، آخر هذه الأجيال نحو مرحلة انتقالية، تغيب فيها السياسة كفعل مجتمعي لتيارات متنافسة، وأحياناً متصارعة على رؤيتها ومشاريعها.

كان للمجتمع المحلي في مدينتي الصغير مصياف، دوره الأساس في وضع بذرة الوعي السياسي المبكر لدى أبناء جيلنا. كانت مدينتي تموج بالتيارات السياسية والفكرية والأدبية، فاستيقظنا على الاهتمام بالسياسة من الطفولة المبكرة، وحتى قبل أن نأخذ حقنا من هذه الطفولة. ولا أبالغ بأننا قد نكون قد ظُلمنا وفقاً لمعايير حقوق الإنسان، بتحمل مسؤوليات مواقف سياسية. ولكن هذه هي طبيعة الأشياء، التي دفعتنا للنضج المُبكر.

بدأت روافد جديدة لتشكيل الوعي السياسي المُبكر، مع صدور جريدة “السفير” في العام 1974، التي بدأت صورتها غائمة في الذهن أول انتشارها. ومع بدء الحرب الأهلية في لبنان، عام 1975، بدأت تترسخ صورتها في الذهن أكثر وأكثر، على الرغم من وصولها المتأخر بيوم ونصف عن صدورها في بيروت، وأحياناً يومين كاملين لوصولها إلى المركز الثقافي، الذي كان يتيح لنا المتابعة المجانية.

لم نكن نعرف الأستاذ طلال سلمان بدايةً. ولكن مع تعمق الوعي السياسي، اكتشفنا أن جريدة “السفير” هي طلال سلمان، الذي استطاع أن يجذبنا من زاويته اليومية “على الطريق”، بوصلتنا اليومية لتحديد المسار السياسي العام. وقد تحول إلى قاسم مشترك لكل القوى الوطنية والقومية واليسارية. كما استطاع في تلك المرحلة أن يكون من المساهمين في صنع القرار السياسي، إن كان من خلال زاويته اليومية بشكل أساسي، أم من خلال المحتوى العام للصحيفة، وخاصةً صفحة الرأي، التي كانت تٌقرأ بتأنِ وروية، ففيها مكثفات فكرية حوارية ضرورية لتجديد الفكر بالحذف والإضافة.

بقي الشغف بجريدة “السفير” وطلال سلمان مستمراً وبشكل يومي، وخاصةً بعد توفر شبكات الإنترنت، التي سهّلت لنا التواصل المباشر، وقبل ساعات الفجر الأولى، مع بدء نشر المقالات والمواضيع المتنوعة على الموقع الإلكتروني للجريدة. واستمر خط طلال سلمان رافداً أساسياً، وخاصة مع اندلاع الحرب في سوريا، إلى أن أطفأ ناشر “السفير” أنوار مكتبه في 31 كانون الأول/ديسمبر 2016، معلناً غيابه الاختياري عن المشهد الصحافي اللبناني والعربي.

رحل رجل نموذجي لم يملأ أحد الفراغ الذي تركته جريدته ومؤسسته منذ نهاية العام 2016. والقلة النادرة من تستطيع أن تملأ فراغ الرحيلين الأول والنهائي. ولا يمكننا إلا أن نشهد بفضله وفضل الفريق الذي عمل معه طويلاً، ريادية المساهمة في صياغة الوعي السياسي، لكل الذين قرروا أن يتحدوا زمن الانحدار.

نشرت في موقع 180 بوست

Exit mobile version