لا حزن يوازي الخسارة برحيل الأخ والصديق والزميل رفيق العمر طلال سلمان. كنا معاً من بداية الشباب وبداية المهنة. من «الاحد» في أوائل الستينات الى «الصياد» في أوائل السبعينات. وبقينا معاً في الحياة والمقابلات التلفزيونية والإذاعية والمحاضرات ومجلس نقابة الصحافة مثل «ثنائي»، وإن اختلفت دروبنا. واحد ناصري وآخر ماركسي، لكن الإنسجام مثالي في رحاب لبنان العربي الأرقى من الطوائف والحكام، والبحث عن العدالة الإجتماعية، والإيمان بالعروبة الحضارية ومركزية القضية الفلسطينية، والدفاع عن قضايا الإنسان في كل مكان.
كان طلال صحافياً بالفطرة قبل التدريب. يريد أن يعرف ويقدم للقارئ ما لا يريد الحكام أن تعرفه الناس. وكانت لديه منذ البداية موهبة قيادية وقدرة عن الإستقطاب حتى أيام اليد الفارغة. سؤاله الدائم وهاجسه هو: هل نظل نعمل مدى الحياة عند الآخرين؟ وإمتلاك صحيفة كان مشروعاً حياً في عقله قبل ولادة «السفير» عام 1974 بعدما تأمنت سبل صدورها.
حين غادر طلال «الصياد» لإصدار «السفير» فتح ورشة جمع لها كوكبة من أهل المواهب وأصحاب الخبرة من لبنان ومصر وفلسطين وسوريا وسواها. كان يعرف ان أكسير الحياة لأي صحيفة هو أن تكون مشروعاً لخدمة الناس «تعيش فيه مئة مدرسة وتنفتح مئة زهرة» حسب تعبير ماوتسي تونغ، وإن كانت مشروعاً لشخص. وهو أدرك بالخبرة أن قلة الإنتشار ثم الموت هما قدر أية صحيفة يخاف صاحبها من الأسماء اللامعة ويريد أن يكون النجم الوحيد فيها. ومن هنا جاء النجاح الباهر لمغامرة «السفير» التي شقت طريقها وسط صحف مكرسة ومخضرمة. نجاح صحيفة صنعت تياراً سياسياً وثقافياً واجتماعياً، من دون الإنغلاق على كل التيارات. صحيفة كانت «حزباً»، وإن بدت أوسع من الأحزاب. وصحيفة أصرت، في زمن الإكتفاء بتسجيل المواقف المعلنة ونشر الأخبار المعروفة، على السعي الدائم لتقديم الأخبار الكاملة حيث يمكن، وكشف الأسرار حيث التيسر وإعلاء «صوت الذين لا صوت لهم» دائماً، وإن فرضت عليها الظروف رفع صوت من ليس لديهم سوى الصوت العالي.
كان طلال عابراً للطوائف محباً للحياة والطرب، بصرف النظر عن مسايرة الموقع بحكم الأمر الواقع. لم يقع في شرك ما سماها محمد أركون: «السياجات الدوغمانية المغلقة». وهو واحد ممن تنطبق عليهم معادلة أنطونيو غرامشي: «تشاؤم المثقف وتفاؤل الإرادة». حتى حدّته في الكتابة أحياناً، فإنها ليست غريبة بالمقارنة مع ما دعا إليه الإقتصادي البريطاني الكبير كينز، وهو: «الكلمات يجب أن تكون عنيفة لأنها هجوم الأفكار على اللاتفكير». شاب عصامي من شمسطار صار منارة للعالم العربي من لبنان. شجرة جذورها في لبنان وفروعها في المنطقة. عائلي شديد الإهتمام بعائلته كما بزملائه حتى القدامى منهم، على الرغم من الوقت الكثير الذي يعطيه للصحافة. بارع في إجراء الأحاديث السياسية وكتابة التحقيق السياسي كما في المقال. ولعله رحل حين قرر مضطراً غياب «السفير» قائلاً إنها «تغيب ولا تنطفئ». رحل عن بلد ينهار فقد حتى الأمل، وبقي هو حياً، وتركنا مثل الذين قال عنهم بدوي الجبل «موتى على الدروب تسير».
جريدة نداء الوطن