رحلة الراحل طلال سلمان ناشر ورئيس تحرير صحيفة “السفير” التي كان يصدرها من بيروت ليقرأها الجميع في الوطن العربي، رحلة غنية بالأحداث والتطورات والتحولات، كان خلالها شاهداً ومواكباً ومحللاً لمتغيرات في الخرائط والأنظمة والدول والحكام، حتى غدت “السفير” بعد 43 عاماً، إضافة إلى صحيفة رائدة، “مطبخاً” سياسياً، حيث كان مكتب “الأستاذ طلال” مقصداً دائماً، لا بل يومي لكبار القادة السياسيين، فتعقد فيه حلقات النقاش في قضايا الساعة، فضلاً عن لقاءات بعيدة عن الاعلام، بما فيها صفحات “السفير” نفسها، وخلالها تجرى إتصالات سياسية رفيعة، وتتم خلالها إتفاقات على قرارات سياسية معقدة، يكون دائماً الأستاذ طلال عرابها.
بذلك، كان طلال سلمان يجمع في شخصيته المتواضعة بين الاعلامي المتألق والسياسي المحنك، بأسلوبه الهادئ الرصين، ما جعله يفرض إحترامه على السياسيين، بقدر ما كان موضع إحترام وتقدير في الوسط الاعلامي.
موقع “لبنان الكبير” يستعرض بعضاً من محطات الراحل طلال سلمان، التي مهدت لاصدار صحيفة “السفير”.
تكون وعيه السياسي:
بدأ الوعي السياسي للفتى طلال سلمان السياسي يتكون في الأجواء التي أعقبت ثورة 23 تموز 1952 في مصر، التي كان لها التأثير الأكبر في جذب انتباهه إلى السياسة. إضافة إلى ذلك، فان وجوده في مدرسة بلدة المختارة فتح عينيه على بعض جوانب الواقع اللبناني، فعايش أول انقلاب سياسي لبناني ضد حكم الرئيس بشارة الخوري في سنة 1952. وفي بلدة المختارة، تعرّف إلى كمال جنبلاط الذي كان ملهماً لجيل كامل من الشبان اللبنانيين التائقين إلى العدالة الاجتماعية، وإلى ربط لبنان بقضايا العرب والعروبة وفلسطين. هذه النشأة، جعلت من طلال سلمان قومياً عربياً من دون الانخراط في أي من الأحزاب، على الرغم من علاقاته الشخصية المتينة بمؤسسي “حركة القوميين العرب” أمثال جورج حبش وهاني الهندي علاوة على غسّان كنفاني ومحسن إبراهيم.
البداية مصححاً:
عندما قرر النزول إلى بيروت، كان يبحث عن عمل في حقل الصحافة، فعثر في العام 1956 على وظيفة مصحّح في صحيفة “الشرق” الظهرية. بدأ العمل من دون أجر في ميدان التصحيح مرحلة تجريبية وتدريبية، ثم تحوّل بسرعة إلى “المقص” الذي كان تقتطع بواسطته الموضوعات والأخبار من صحف الصباح ليعيد نشرها ظهراً في صحيفة “الشرق”. غير أنه لم يستمر في هذا العمل إلا فترة قصيرة جداً، فانتقل إلى صحيفة أخرى، وعمل فيها محرراً لقسم الجرائم والحوادث.
عبد الناصر كان يقرأ مقاله في “الحوادث”:
عام 1958، انضم طلال سلمان إلى مجلة “الحوادث”، وبدأ مسيرته فيها في قسم التصحيح أيضاً، لكنه لم يستمر فيه غير فترة قصيرة، كُلّف بعدها إعداد “بريد القراء”، ثم تحوّل إلى كتابة زاوية ثابتة بعنوان “شطحة”. وقد اكتشف لاحقاً أن الزعيم جمال عبد الناصر كان يقرأ هذه الزاوية باستمرار. بعدها أصبح سكرتيراً لتحرير “الحوادث” ولم يكد يبلغ العشرين، وصار كاتب مقالة سياسية.
اللقاء بعبد الناصر:
كان طلال سلمان يردد دائماً أن أهم حدث في حياته لقاؤه الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق في أوائل سنة 1958 لتهنئته بالوحدة بين مصر وسوريا.
سجنه بتهمة دعم ثورة الجزائر:
إعتقل عام 1961 بتهمة إقامة صلة مع أحمد الصغير جابر، وهو ممثل “جبهة التحرير الجزائرية” في لبنان، وتهريب السلاح إلى الثوار الجزائريين، وإعداد انقلابات عسكرية في بعض الدول العربية. ومع ذلك، خرج من السجن بالبراءة بعد نحو 20 يوماً من التحقيقات المتواصلة والاحتجاز. وفي تلك الأجواء المحبطة في 1962، جاء إلى لبنان مؤسّس “دار الرأي العام” الكويتية التي تُصدر صحيفة “الرأي العام”، عبد العزيز المساعيد، وعرض عليه السفر إلى الكويت لإصدار مجلة “دنيا العروبة”.
التنقل بين “الصياد” و”الأحد” و”الحرية”:
في تلك الحقة حملت بيروت لقب “عاصمة الصحافة العربية”، ما دفع سلمان للعودة الى بيروت التي عشقها بقدر عشقه للكلمة، فالتحق فور بـ “دار الصياد”، وتولّى في سنة 1963 منصب مدير التحرير في مجلة “الصياد”. بين سنتي 1963 و1973، تنقّل سلمان بين مجلات ثلاث، “الصياد” و”الأحد” و”الحرية”. وأتاحت له هذه السنين العشر أن يطلّع على خفايا وأسرار وخلفيات كثيرة، وأن يتعرّف إلى عدد كبير من ألمع الأدباء والكتاب العرب، الذين شكلوا لاحقاً ذخيرته في مشروعه بإطلاق صحيفة “السفير”.
“السفير” من الحلم الى الصدور:
خلال هذه الحقبة التي إمتزجت بالحلم والتعب والأمل، كان طلال سلمان يُعد العدة لإصدار “السفير”، وكانت هذه الخطوة تحدّياً متعدد الوجوه. وبعد جهد مكثف ومشاورات كثيرة، وبدعم من الرئيس معمّر القذافي، صدر العدد الأول من “السفير” في 26/3/1974، وكان يتضمن مقابلة مع الزعيم ياسر عرفات، ويحمل شعار “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”، فضلاً عن شعار رديف “صوت الذين لا صوت لهم”.
منذ اليوم الأول فرضت “السفير” نفسها، وقفت مباشرة بعد “النهار”، الجريدة الأعرق في لبنان، متخطّية كل صحف البلد في التوزيع.
مع غياب طلال سلمان، الصحافي والأديب والمثقف المتألق والخلاق، وصاحب الموقف والرأي الجريئين، الذي كاد أن يدفع حياته ثمناً لها، عندما تعرض لمحاولة إغتيال، تنتهي حقبة مشرقة من التألق الصحافي في لبنان، في وقت ينحسر فيه دور الصحافة الورقية!
موقع غراند LB