طلال سلمان

طلال سلمان مات شوي شوي

لم يمت طلال سلمان فجأة.  طلال سلمان مات على مدى عمر. عمر خيباتنا وانكساراتنا وهزائمنا، اللبنانية والعربية والعالمية.

ربما تكون خيبات طلال مختلفة عن خيباتنا، لكنه مات بهدوء مزمن، تماماً كالصحافة التي لم تمت فجأة، والتي احتاجت إلى وقت طويل كي تموت مع كل القضايا الرائعة والمحقة والمشرفة، التي انكسرت كزجاج مؤلم على ذاكرة زماننا.

مع كل صدمة وخيبة وهزيمة نموت قليلاً. لهذا، عندما تأتي لحظة الموت الأخيرة، نكون قد فقدنا مُسبقاً عمرنا وقلوبنا ودفئنا على الطريق، ولم يتبق لنا إلا لقاء لحظتنا النهائية بعينين زجاجيتين لإسدال ستارة العمر على تجاربنا وعشقنا وضحكاتنا ودموعنا وقضايانا وحريتنا على ملاعب طفولتنا وحقول شغفنا،.. وعلى كأس نبيذ لم يتسنّ لنا معانقته حتى الدمعة الأخيرة.

طلال سلمان مات شوي شوي، في بلد قال لي عنه يوماً إنه بلد تحكمه وحوش لا تتردد في سفك دماء الناس من أجل المال والسلطة.

طلال ربما مات قليلاً في الاجتياح الإسرائيلي. ومات قليلاً في هزيمة اليسار النظيف. وبعدها مات قليلاً في التسوية اللبنانية المعاقة اللي أنتجت لبناننا اليوم، لبنان العشائر الطائفية وأحزابنا العميلة، لبنان تأليه الزعيم ورجال الدين وديوك مزابل الشوارع والأحياء.. والتبولة والكبة النية. ولا شك أن الإقفال غير المبرر لصحيفة السفير أفقد طلال وأفقدنا المزيد من سنوات العمر الضائعة “على الطريق”.

قلّة تموت فجأة. الموت يبدأ بالتراكم فينا بهدوء كثلوج كانون، من لحظة وعينا الأولى للحياة واصطدامنا الكبير بالحقائق الموحشة والقاسية وبصقيع طريق الأيام.

نحن نموت على مراحل. يتسلل إلينا الموت كنُعاس في صباحات تشرين بعد صيف طويل. نموت بفقدان كل عزيز، ومع كل خيبة وهزيمة، ومع كل حب يفارقنا أو نفارقه ومع كل احتلال وقسوة وظلم.

أظن أن جيلي فقد العديد من سنوات العمر في الحرب الأهلية الغبية، وفي الاحتلال الإسرائيلي وبعده الاحتلال السوري، ولاحقاً مع إحتلال أسوأ طبقة زعران للحياة السياسية في لبنان، قبل أن ينفجر في قلوبنا مرفأ بيروت ويشوّه ما تبقى من عمرنا، لنصبح كضحايا هيروشيما وملجأ العامرية في بغداد، مشوّهون نفسياً، وتاريخياً.

اليوم، مع موت طلال سلمان، ندخل مرحلة أخرى من مراحل نُعاس موتنا الهادئ. وبرحيله نستعيد لحظات مجد، وتصميم وحب وكثير من الهزائم الشخصية والاجتماعية والوطنية. وبتوديعنا له نودع رشفات دفئ من كأس العمر، قد لا يأتي مثلها. ونتطلع بخوف وحذر إلى أيام ستأتي من دون طلال، ومن دون غسان تويني وغيرهم الكثير، لنكمل المسيرة في صحرائنا الصحافية والإعلامية التي يتربع فوق كثبانها إعلاميو رأس المال والساعات الفاخرة.

نشرت في موقع 180 بوست

Exit mobile version