أعرف طلال سلمان منذ السبعينات، أي منذ عمر. عندما أسّس جريدة “السفير”، تعجّب الناس، كيف سيستطيع هذا الصحافي أن ينافس بجريدته غيرها من الصحف. ولكنّ ذكاء طلال سلمان أنّه أسّس جريدة لبنانيّة للعرب، فهي كانت ولا تزال عروبيّة النفَس. هذا التميّز كان عاملاً مهماً جداً، واستمرّ رغم كل الصعوبات. طلال سلمان يمتلك نفَساً عروبياً، فأنشأ جريدته جريدة عروبية لبنانية، وفلسطينية الاتجاه، بمعنى أنه كان ولا يزال يعتبر أنّ فلسطين هي قضيّة العرب الأولى، وإذا لم تُحَلّ هذه القضيّة، فلن تُحَل أية قضية أخرى في العالم العربي.
عرفته منذ زمن، كان نحيفاً، عنده خفَر وحياء، لديه ابتسامة جميلة للناس الذين يحبّهم ، أما الناس الذين لا يحبّهم فإنه يكشّر عن أنيابه. خلف هذا الخفر والحياء، يختبئ رجل شجاع ومقدام يعرف من أين ينطلق وإلى أين سيصل، لذلك أنا أحترمه. وطوال الفترة التي عرفته في خلالها، يأتي إلى المسرح، يحبّ الموسيقى، يشجّع الموسيقيين، يشجّع الفنانين، يحب الطرب والغناء، دائما كنت أراه في المسرح، لم يجلس يوماً في الصف الأول، ولم يطلب أن يكون في الصف الأول، دائما كان يجلس في المقاعد الأخيرة، أو في زاوية من زوايا الصالة، كي يجلس بالقدر الذي يستطيع ويذهب.
أسّس طلال سلمان الجريدة الأولى، عروبيّة النفَس، واضحة المعالم، وهذا صعب في لبنان، أن تكون واضح المعالم. عندما صدرت “السفير” قلنا جميعا الآن عم يفتح جريدة وفي هذه الأجواء، ولبنان على فوّهة حرب أهلية! وفعلاً، صدرت جريدة “السفير” في وقتها، فكانت في أيام الحرب صوت الحق وصوت الناس المحتاجين والناس المعذبين والناس المقاومين.
استمرّت الحرب واستمرّ قلم طلال سلمان يتألّق وتتبلور هويّته: قلم نافذ يدخل القلب والوجدان، سواء كتب في الفن أم الحب، أم السياسة… نشعر أنه يكتب من قلبه، من وجدانه.
بين “مسرح المدينة” و “جريدة السفير” روابط مشتركة كثيرة وذكريات. أحب أن أذكر بعضها. في ذكرى مجزرة قانا اتصل بي طلال سلمان، وقال: “نودّ أن ننظّم نشاطات، لنجمع المال ونرسله إلى أهالي قانا”. قرّرنا أن نحضر لوحات من فناني العالم العربي، وقد تجاوب معنا كل الذين استطعنا الوصول إليهم: مصريين وعراقيين وسوريين وفلسطينيين ومن أقطار المغرب العربي…فرشنا المسرح باللوحات. كذلك فقد نظّمنا ليالي فنيّة، واستجاب لمبادرتنا عدد كبير من أهل الغناء تتقدّمهم ماجدة الرومي، وكان بينهم الراحل زكي ناصيف وجورج وسّوف وراغب علامة. وقد جاؤوا مع فرقهم الموسيقيّة وغنّوا لـ “قانا” وللمقاومة. فأطربوا بصوت الشجن. وبالفعل، جرى بيع اللوحات، وشهدت الحفلات إقبالاً كبيراً، وجمعنا المال. ثمّ ذهبنا إلى “قانا” وسلّمنا المبالغ التي جمعناها إلى البلديّة، وكان المشروع أن يقام متحف يخلّد شهداء “قانا”، كما ارتأى الفنان موسى طيبا.
كما رافقت طلال سلمان في محطات كثيرة. أودّ أن أتحدّث عن عاطفته الحقيقية تجاه أصدقائه، فصديقه صديق. يوم دفن الكاتب المبدع سعدالله ونوس، ذهبنا إلى سوريا، وكتب طلال عن سعدالله، وكان كلامه حفراً وتنزيلاً، يحفر في القلب. عندما يقيّم الناس يكون حذراً إلى ما سيقول، لأنه يعرف أنّ هذا الكلام للتاريخ. فهو يمتلك هذه المقدرة وهذا الشعور الدفين لحفظ التاريخ، والمستقبل، فيأخذ بعين الاعتبار أنّ ما يُكتَب في “السفير”، سيقرأه الناس، اليوم وفي الآتي من الأيام، وسيقيّمون مسيرة طلال سلمان في خلال هذه السنوات الطويلة من النضال.
لطلال سلمان قيمة إنسانية، وقيمة فكريّة وأدبية، وقيمة رجل مقاوم بكلّ معنى الكلمة. جريدته مقاومة وأفكاره مقاومة. إضافة إلى كونه إنساناً منفتحاً وغير طائفي، هو وعائلته. لذلك أحبّه وأحبُّ زوجته محبّة خاصّة. كل عائلته منفتحة ومحبِّة. حتى الناس الذين تركوا الجريدة بقيت علاقتهم معه طيبة وجيدة.
ولقد صمدت المؤسّسة حتى أصبح عمرها أربعين سنة، وهو أمر مهم جداً في لبنان. وبالرغم من كل الظروف الصعبة التي مرّت بها “السفير”، فقد ظلّت أهدافها الوطنية قائمة، ومستواها جيّداً. وبقيت “السفير” صوت الناس العاديين، ولم تكن يوما صوت الرأسماليين ورجال السياسة. فالمثابرة، الاستمرارية، العناد والشجاعة هي من أبرز صفات صاحبها والتي تدفعه إلى الصمود.
جريدة “السفير” انطلقت في ظروف صعبة، سنة 1974، عشيّة بدء الانفجار في لبنان الذي تمدّدت وقائعه الدامية حتى صارت حرباً أهليّة. في هذا الوقت، يتجرّأ شاب ويؤسّس جريدة سياسية في لبنان، وهذا كان حدثاً. بدأ في ذلك الوقت، واستمرّ وسط بحر هائج من الأحداث في لبنان والعالم العربي، ولقد تبلور هذا التخبّط في السنوات الأخيرة، سواء من خلال التفجيرات، أم ما سميّ بـ “الربيع العربي”. بقي طلال سلمان وجريدة “السفير” واعين تحليلهم دقيق ونقدهم واعٍ، واستمرّت “السفير” محافظة على مستوى عال جداً من الوطنية والقومية. وأنا أهنئ أسرة “السفير” في عيدها الأربعين فرداً فرداً وبالأخص الأستاذ طلال سلمان ذلك الصديق العنيد.
نضال الاشقر
الطريق، 192013