في الشهور الأربعة الأخيرة من العام 2016، كنا على موعد أسبوعي مع رئيس تحرير جريدة “السفير” طلال سلمان في إطار التحضير لفيلم وثائقي. ينسحب من مكتبه في الطابق السادس ويوافينا إلى “غرفة الاعترافات” كما أسماها، ليحكي قصة شاب لبناني فقير استطاع تأسيس واحدة من أهم الصحف في الوطن العربي… وقرّر أن يقفلها بعد 43 عاماً. في مذكراته هذه، يروي لنا طلال سلمان قصة “السفير” مع ليبيا ومعمر القذافي وظروف التأسيس في بيروت.
في منتصف العام 1973، قدم إلى لبنان شخص ليبي اسمه مصطفى بزاما وطلب مقابلة الصحافي طلال سلمان. “أخبرني عن رغبة ليبية في إنشاء جريدة ومجلة ومركز دراسات، وأن هناك توصية من القيادة بلقائي أولاً. قلت له: ما علاقتي بالموضوع؟ قال: أنت الأساس، أجبته: لا مكان لي في مشروع من هذا النوع، وأخبرته خلال الجلسات التي تلت أنني أطمح فعلاً إلى أن يكون عندي جريدة، لكن جريدة أؤسسها أنا ولا تكون تابعة لنظام سياسي. تناقشنا، واتفقنا على أن يقدّم لي المال الذي أحتاجه في صيغة قرض”.
بعد الحصول على القرض، وكانت قيمته مليون وثلاثمائة وسبعون ألف ليرة، قرّر سلمان أن لا يزور ليبيا إلا بعد صدور “السفير”، وبدأ رحلة التأسيس لجريدته من مصر، “زرت محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحفوظ الأنصاري والتقيت جماعة الأهرام ومجموعة من الكتّاب والفنانين والرسامين أصدقائي، وأخبرتهم عن المشروع وأبدوا استعداداً للمساعدة في حال احتجت إليها”.
بعدها، بدأت رحلة البحث عن امتياز، واستطاع طلال سلمان أن يحصل سريعاً على موافقة مبدئية من عبدالله المشنوق للحصول على امتياز جريدة “بيروت المساء” اليومية، لكن الصحافي أمين الأعور سبقه إليه. إستغرقت المرحلة الثانية من البحث وقتاً أطول، إلى أن دلّه شاب إسمه محمد رسلان إلى وجود امتياز أسبوعي يحمل اسم “السفير”. ولكي تتحوّل “السفير” إلى يومية، كان عليها الاستعانة بامتياز آخر، “استعنت بصديق اسمه علي بلوط، كان يصدر مجلة اسمها الدستور أسبوعياً، لكن امتيازها يومي، واشترينا منه حق الصدور اليومي”.
لكن طلال سلمان بقي متردداً في شأن الإبقاء على اسم “السفير”، واحتار في وقت لاحق بينه وبين اسم “الهدى” التي يملك امتيازها أحمد السبع، والد الوزير السابق باسم السبع، وبين “الفجر”، وهو ترجمة لاسم جريدة أرمنية عُرضت عليه. جاءته النصيحة من محمد حسنين هيكل: “لا لا، بلاش الهدى. دي فيها التباس ديني، الفجر كويسة والسفير كويسة”. ثم سأله: هل تعرف (مجلة) الحوادث؟. أجابه سلمان: طبعاً عملت فيها مرتين. سأل هيكل: وما معنى الحوادث؟ يعني سيارة صدمت بسيارة، يعني قطار خرج عن السكة، ولكن لأنها نجحت صارت “الحوادث” مضرب مثل بالنجاح. إذاً الاسم غير مهم، وإذا نجحت لن يحاسبك أحد على الاسم.
تشجع سلمان بكلمات هيكل واستقرّ على “السفير”، وفي نهايات العام 1973 استأجر مكتباً صغيراً في سنتر فرح في شارع الحمرا الرئيسي في بيروت، بعد بحث طويل، “جلنا في ثلاثة أرباع بيروت تقريباً، لم يوافق أحد على تأجير شقة للجريدة. كانوا يقولون إنها خطرة أو أن المستأجر لن يدفع، إلى أن توفقنا بعيسى مكي الذي أعطانا شقة في الطابق الثاني”.
حلمي التوني وهوية “السفير”
بدأت الاتصالات لتوظيف فريق العمل في “السفير”. “استُنفر الجسم الصحفي في البلد لأن جريدة جديدة ستصدر، وكثر عدد المتصلين من الذين يرغبون في العمل، وكنت حريصاً على اختيار المهنيين بحكم أني عملت في المهنة وبت أعرف معظمهم. ياسر نعمة كنت أعرفه من أيام مجلة “الحرية” وكان مديراً إداراياً فيها، والراحل محمد مشموشي كنت أعرفه من مجلة “الأحد”، وكذلك صديقي المصري جمال الدين طاهر، الذي كان مخرجاً وصحافياً في الوقت نفسه. كما اتفقت مع المحرّر المخضرم ميشال حلوة الذي كان يعمل مع أمين البستاني، وباسم السبع كان يتردد إلى بيتي في الشياح، واستعنت أيضاً بزملاء من “دار الصياد” وبعدد من خريجي كلية الإعلام. وفي الدفعة الثانية، تعرفنا على موجة ثانية من الشباب منهم جوزيف سماحة وحازم صاغية”.
آن أوان إعداد الماكيت الورقية وشعار الصحيفة، وقد توصّل الفريق سريعاً إلى اختيار شعارَيْ “صوت الذين لا صوت لهم” الذي لا يزال يراه شعاراً موفقاً، و”جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”، وجرى تحديد موعد للصدور في نهاية شهر آذار/ مارس من العام 1974. لكن بقيت مشكلة “اللوغو”. كان طلال سلمان يتواصل دورياً مع أصدقائه في مصر، ولا سيما الفنان حلمي التوني الذي كان مرتبطاً بدار الهلال، فلم يعده بشيء. لكن مع إقتراب موعد الصدور “وصل حلمي التوني فجأة إلى بيروت وهو يحمل شعار “السفير” على شكل حمامة، لونها برتقالي، بالإضافة إلى طريقة كتابة اسمها. الحمام هو حامل الرسائل، والبرتقال يعني الشام وبرتقال حيفا في فلسطين، كانت فرحتي كبيرة جداً لأنه رفع عن كاهلي هم الواجهة الأساسية التي ستعبّر عن روح الجريدة. بعدها نظّمنا حملة إعلانية ظريفة عرضت في دور السينما في بيروت وكانت عبارة عن فيلم قصير يصوّر رفاً من الحمام الذي يطير ويرفرف. ترك هذا الفيديو صدى إيجابيا جداً. أذكر أنهم بينما كانوا يعلّقون شعار الجريدة على المبنى، مرّت امرأة مع ثلاثة أولاد فقال لها أحدهم: “ماما، ماما، شوفي “السفير”، مع أن الاسم لم يكن مكتوباً”.
عقلية المغامرة
خلال هذه الفترة، عمل سلمان ليل نهار “بين شهرَيْ كانون الثاني / يناير وآذار/ مارس 1974، أعتقد أني كنت أنام بمعدّل ثلاث إلى أربع ساعات فقط يومياً. كانت أياماً عظيمة إذ كنت مقتنعاً بأني أقوم بعمل مهم، وأني لن أصدر جريدة عادية. يمكن القول إنه كان غروراً شخصياً بالإضافة إلى كفاءة مهنية وخيارات جيدة للفريق. عشت تحدي إثبات الجدارة، والتميّز، ولم أغفل التحديات السياسية بالإضافة إلى مراعاتي لهاجس أساسي كان يرافقني وهو أن لا أصدر جريدة تكون ذات صبغة ليبية، على الرغم من تقديري للأصدقاء الليبيين الذين ساعدوني، لكنها جريدتي وجريدة من عملوا فيها ولذلك لم أذهب إلى ليبيا إلا بعد صدور نحو 15 عدداً من “السفير””.
سبب آخر للذهاب، هو تأمين المال بعدما أُنفق المبلغ كاملاً “اعتبرت في البداية أن مبلغ مليون وثلاثمائة وسبعون ألف ليرة لا يمكن أن ينتهي، وأنا المعتاد على ألف ليرة، خمسة آلاف، عشرة آلاف. تكلّفنا كثيراً، دفعنا الرواتب لشهور عديدة من دون إنتاج، بالإضافة إلى شراء نصف المطبعة، الورق، والتجارب”.
عندما يعود سلمان اليوم إلى تلك الأيام، يعترف بأنه أنشأ “السفير” بعقلية المغامرة: “لطالما كنت أشعر بأني قادر على إصدار جريدة مميّزة لولا أني لا أملك الفلوس، لذا لم أفكر بأني قد أستمرّ أكثر من سنة أو سنتين أثبت من خلالها كفاءتي المهنية، لكن النجاح الذي حققناه منذ الأيام الأولى جعلني أكثر ثقة. منذ اليوم الأول، فرضت “السفير” نفسها، وعندما صار عمرها ثلاثة أيام، وقفت مباشرة بعد “النهار”، الجريدة الأعرق في لبنان، متخطية كل صحف البلد في التوزيع. هذا النجاح يصبح رأسمال الصحافي. يعني عندما أذهب إلى ليبيا، أو إلى غيرها طلباً للمساعدة، أذهب ورأسي مرفوع. لقد أنجزت مشروعاً ناجحاً له مردود معنوي، لا يمكن أن تسيء إليه إلا بالقول إنه ليبي. هذا اللغط حول كون الجريدة ليبية كان يفيد معمر القذافي ويؤذيني أنا، لكني كنت أراهن على حكم القارئ. هو يسمع أنها ليبية طيب، لكنه عندما يقرأها سيجد أن أخبار ليبيا فيها مثلها مثل أخبار أي دولة عربية”.
تحديات الاستمرار
عندما وصل سلمان إلى ليبيا، التقى القذافي “كان لقاء سريعاً، أخبرته عن الجريدة وعرضت عليه عددين أو ثلاثة منها. نظر إليها فلم يجد صورته، واكتفى بالقول: مبروك”. كما توجه إلى وزارة الإعلام “كان أبو زيد دوردة وكيل وزارة الإعلام في حينه، قدّمت له مجموعة من أعداد “السفير”، نظر إليها، فرأى في الصفحة الأخيرة كلمة لجمال عبد الناصر ولا شيء عن ليبيا. لم يكن مسروراً لكنه قال طيّب، سنشترك معك. نريد خمسة آلاف نسخة. رفضت. قال: لم؟ قلت لن أرسل لك خمسة آلاف نسخة، لن أرسل لك أكثر مما أبيع في لبنان. قال: وكم تريد أن ترسل؟ قلت: 500 نسخة كحد أقصى لأنني لا أريد أن أضحك على نفسي. لكني أضفت: لا تهمني الاشتراكات بقدر ما تهمني الإعلانات، هذا ما أحتاج إليه. قال حاضر، واتصل عبر الهاتف بمدير الشركة المعنية بالإعلانات، ووقعت معه نحو 10 إلى 15 عقداً”. الحرص الذي كان يبديه سلمان على “مأسسة” العلاقة المالية مع الليبيين، سواء من خلال صيغة القرض أو العقود الإعلانية، كان يقابله “فوضى مخيفة في الإدارة الليبية، الأخوان الليبيون ينسون كثيراً، وفي كلّ مرة تذهب تجد أن مدير التوزيع طار وعيّن آخر مكانه. وزير إعلام طار وعيّن آخر مكانه. لا تعود تعرف مع من يجب أن تتكلم، وهذا الأمر إرتد سلباً على الإعلانات والاشتراكات”.
صيغة أخرى فرضت نفسها، يعتبرها طلال سلمان ضريبة نجاح “السفير” التي تستحق الاستمرار في الحياة لوقت أطول خصوصاً أنها دخلت سريعاً في “الأيام الصعبة”. بالتوازي مع نجاح لافت للنظر في السوق اللبنانية، تسارعت الأحداث في لبنان واندلعت شرارة الحرب الأهلية باغتيال معروف سعد في صيدا في شباط/ فبراير 1975 وما تلاه من تداعيات حرمت الجريدة من الانتشار في عدد كبير من المناطق اللبنانية.
الأضرار لا بد منها
كان لا بد من تأمين المال بأي طريقة، ولا بأس من الذهاب إلى ليبيا مرة ثانية. مجدداً، لم تكن هذه الزيارة أفضل بكثير من سابقتها. وهنا يعترف سلمان بأن الحديث عن هذا الأمر يوجعه “لأني تضرّرت في مكان ما. أخذوا مني 500 اشتراك، ونشرت لهم الإعلانات، لكني لم أحصل على شيء منهم في المقابل. صار عليّ أن أحصل على حقوقي بالطرق الأخرى، من خلال مقابلة القذافي وطلب المال منه مباشرة”. لكن هذا الأمر لم يعد سهلاً كما في السابق، إذ لم يعد الحصول على موعد يستغرق يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين “كان يصل بي الأمر أحياناً إلى أن أبقى في ليبيا ثلاثة أشهر وأكثر في انتظار موعد معه، لأنه لا يمكنني العودة إلى لبنان من دون مال والديون تتراكم. كنت أشعر بأني محكوم في زنزانة إفرادية، صرت أخجل من النزول إلى صالون الفندق. في حالات مماثلة، يشعر الشخص بطعم كريه للثروة، لكن ما العمل وصار بين يديّ جريدة ناجحة استطاعت أن تصنع مناخاً معيناً. كنت أقول لنفسي، اهدر من كرامتك من أجل المؤسسة. نعم، لقد كلّفتني “السفير” الكثير من كرامتي ومن عزّة نفسي. ورغم كلّ شيء أجزم بأني لم أنافق القذافي يوماً”.
حتى في المناسبات الليبية التي كانت تخصّص لها “السفير” أحياناً مساحة معينة “مثلاً، في عيد الفاتح كنا نجري أحياناً حواراً مع القذافي، وكنا نحاول أن نسأله أسئلة محرجة إلى حد ما، لكننا لا نذهب لنقاتله. لا شبهة للنفاق أو الانبطاح في هذه المقابلات، هذا رأيه وهذه نظريته، نناقشه ونعطيه صفحة أوصفحتين. اعتبروها صفحات إعلانية لأنه في المقابل لدينا مدد معين منه. هذه أمور كنت أقوم بها. وإذا راجعتِ المقابلات يمكنك أن تجدي كل الأسئلة الممكنة، مع إجاباته. أتذكر أننا سخرنا من النظرية العالمية الثالثة وقلنا له من أين أتيت بها، وكان يقبل، على الأقل منا. طبعاً تدريجياً لم يعد يقبل”.
يجزم طلال سلمان أن كلّ من يقرأ “السفير” لا يمكنه أن يربطها بليبيا “لأنها لم تتعامل مع ليبيا إلا في إطار الحدث. نعم، في لحظات حرجة كان القذافي فيها يواجه الاميركيين كنت معه للموت، وهذه حساسيتي العربية، مثلما كنت سأفعل مع سوريا أو مع العراق”.
الصديق عند الضيق
في ظلّ صعوبة لقاء القذافي، لم يجد سلمان منقذاً إلا الصداقات التي استطاع تكوينها، خصوصاً مع كلّ من عبد السلام جلود (عضو مجلس قيادة الثورة والرجل الثاني في ليبيا في حينه)، أبو بكر يونس (قائد الجيش المقرّب من القذافي والذي بقي معه حتى أيامه الاخيرة وقتل معه)، وصالح الدروقي الذي كان سفيراً لليبيا في لبنان في منتصف سبعينيات القرن الماضي. ويؤكد سلمان انه لولا يونس والدروقي لكانت “السفير” قد أقفلت منذ زمن طويل “أبو بكر يونس أنقذني أربع إلى خمس مرات، وأحياناً من دون علم القذافي. رجل بدوي أصلي، محبّ وودود ورقيق مع أنه عسكري”. من المرات التي أنقذ فيها أبو بكر يونس “السفير” هي عندما نُسفت المطبعة ليل 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1980، “نسفها صدام حسين، وقدّم لي أبو بكر يونس عن طريق صالح الدروقي مطبعة جديدة من دون أن أدفع ليرة واحدة. لو كنت سأطلبها من الإدارة الليبية أو من الوزارات الليبية كنت لا أزال منتظراً إلى اليوم. أبو بكر يونس وصالح الدروقي كانا سندي بالمعنى الشخصي المباشر واستطراداً بمعنى “السفير”، أكثر من القذافي وأكثر من البيروقراطية الليبية. يمكنكِ أن تسميها صداقة، يمكنكٍ أن تسميها نجدة، أي شي آخر غير العلاقة السياسية. لقد بقيت “السفير” خارج العلاقة السياسية لأنه كما ذكرت لك يمكنك أن تبقي سنة كاملة في ليبيا ولا تلتقي أحداً من قياداتها”.
أما صالح الدروقي، فقد قدّم لطلال سلمان السيارة المصفحة التي تعرّض فيها لمحاولة الاغتيال “كانت من نوع (بي ام)، وخلال الاجتياح الاسرائيلي أخذها أبو عمار (ياسر عرفات)، ثم أخدها (النائب السابق) نجاح واكيم. يعني كانت برسم الاصحاب”.
أما عبد السلام جلود، “وبرغم المزايا التي كان يتمتع بها، فلم يصبح صديقاً مقرّباً. تعاركت معه أكثر من مرة لأن نبرته كانت مرتفعة، وفي واحدة من المرات غادرت مكتبه بعدما صفقت الباب وعدت إلى الفندق سيراً على قدمي، وعندما وصلت وجدت سيارة تنتظرني لتعيدني إليه”.
تنشر بالتزامن مع موقع 180