يمضي البشر إلى أقدارهم كخطوات عجّلى، مثلهم في ذلك مثل الأشياء التي تأتي وتغيب. هذا النحو المزمن من التلاحق بين بدءٍ وانتهاء، يحوّل الوجود برمته إلى حدّين متجاورين: واحدهما يفتتح المسار ويكتب الخط ويدوّن البداية، والآخر يسدل الستار ويمحو الخطو ويُحلّ النهاية.
هكذا حياة طلال سلمان؛ غير أنّها حياةٌ تحمل أحداثها في متنها، على خلاف ما يحوّل الموت من جللٍ مُستثنى إلى عاديّ مكرّر، حين يسحبُ الفرح إلى خط الولادة ويذر الحزن إلى نقطة الموت. تلك حياة العموم في دنيا المكرَّر. لكن تختلف حياة هؤلاء – الذي يقف طلال سلمان بينهم بمنزلة العِقد من العنق والخاتم من الأصبع والمتن من الورقة والجملة من اللغة والبسمة من الوجه – عن غيرهم ممّن يقعون ضحيّة موتٍ مُعتاد على الاتّكاء على ضحاياه. لأنّ حياة طلال سلمان؛ التي تعدّدت أحداثها بين صحافة وسياسة وفنون.. وبلغت أشواطاً ودفعت أثماناً وقدّمت تضحيّات؛ لم تستأنف حظّها من كل شيّء أرادهُ رغم زعم الكفاية منه. فهو إذّ يُشبع شغفه من الشعر والموسيقى والرسم لا يبعث في ظنّ محاوره بأنّه سيكتفي من أيّ فنٍ لينتقل إلى آخر. فإنْ حدّث مجالسه في الشعر اعتقد بانّه شاعرٌ مستتر. وما إنْ يشرع في شرح السياسة وأخبار الساسة حتى يؤهل سامعه للجزم بوقوف المعرفة عند حدّ السياسة وكفى. وما إنّ تستغرقهُ أخبار الصحافة وأساليب التعبير وأشكال العناوين حتى لا ينتهي أبداً، فذاك هو شأنه الأوّل وهمّه الأخير.
لقد نجا طلال سلمان الأستاذ والمعلم من موت وآخر. تعدّدت أسباب موته في كل مرّة، وكانت النجاة واحدة دائماً باستثناء هذه المرّة. كأنّه تحوّل بفعل النجاة الصديقة هذه إلى الموت في هويته السائلة، فيما استحالت أناهُ المتعبة من عرق السنين إلى الأسباب والعلّل في شكلها السائل. إنّه ذاك الرجل الذي يتعب ولا يستريح ويبتسم ولا يضحك ويمشي ولا يتوقف. هكذا تحلّقت حياتهُ على مدار الوصول إلى قمّة الشيّء بهامش ضئيلٍ من التوفيق. كأنّ المغارم التي يدفعها في كل مرّة كفيلة بتأكيد استحالة بلوغه ما يريد. ومع ذلك يصل ويستمر ويكذّب أنباء موته وهي معلّقة على عواميد الكهرباء في بيروت!
أحبَ طلال سلمان لبنان في كلّ مرّة. ولكنّه على رأس كل حبٍ للبنان لا يصرّح على النحو الذي يفعلهُ العشاق عندما تسكنهم العواصف والنجوم. إنّه على نمط ما وصف ناقد قديم مارون عبود “مثل الفراشة يلمّح ولا يُصرّح”. بيد أنّ الرابط هنا هو أنّ سلمان مثل الفراشة إذ يستقطبهُ الضوء لكنّه لا يحترق عندما يصله!
لقد أدرك جيداً أنّ هنالك أشياءٌ كثيرة في الصحافة في زمنِ الاغتيالات السهلة تجعلها مهنة تشتري الموت بثمن الأقلام، حيث الصحافي في زمنها و(ربما) في الزمن الذي يليّ، في ملاحقته لأخفّ الأخبار وأنعم القضايا يشبه مفكّك القنابل: خطأهُ الأول خطأهُ الأخير. لكن ذلك لم يثنِ من عزيمته في معاقرة الخبر وتعذيبه بالفحص والتمثيل به أثناء التحليل. شيّءٌ يشبهُ الحب المرضيّ الذي يُقصي كل أسباب التخفيف مقابل أن يجد خيطاً واهياً مدقوق الصغر يصلهُ إلى من يحب. حتى لو كان هذا الوصول ينتهي به إلى النجوم، حيث ذهب الآن ولن يعود إلى الأبد.
نشرت في موقع 180 بوست