طلال سلمان

طلال سلمان برحيله.. “لم يعد عنده ما يقوله”

كان “وكأنه علم في رأسه نار”. علم الصحافة اللبنانية التي لا مثيل لها في الوطن العربي. معلّم لمن عمل معه. صحيفته مدرسة. تخرّج على يديه أعلام. مكتبه مركز لشبكة من المثقفين العرب الآتين من المحيط الى الخليج.

أجرى طلال سلمان مقابلات مع الكثير من القادة العرب. بقي طوال حياته عربياً حتى العظم، وناصرياً بكل جوارحه، وفلسطيني الهوى، ومنحازاً للمقاومة بكل أشكالها. اعتبر فلسطين جوهر القضية العربية. إيمانه بالوحدة العربية تجسّد بعاطفة مشبعة، بتوق إلى أن يصير العرب على غير ما هم عليه من تفرقة وتناحر. عروبته مصدر إلهامه الإنساني. ما من قضية تحرر على مدى الكرة الأرضية إلا وناصرها علانية في صحيفته.

كان في لبنان النصير الأوّل لقضية الحريات. سُجن من أجلها مرات، وبلغ حنق النظام الحاكم في لبنان حد الاغتيال، الذي من حظنا وحظ اللبنانيين جميعاً لم ينجح، لكنه ترك ندوباً في جسده رافقته حتى النهاية.

قلبه مفتوح للجميع. مكتبه، الذي مساحته أمتاراً معدودة، مقصد للجميع من المحيط إلى الخليج. روحه تتسع للجميع، عرباً وغير عرب. طغت على عروبته ناصريته، وكان على حق في ذلك. خاف منه الطغاة وأحبه الذين لا صوت لهم. هو صوت الذين لا صوت لهم.

رسالته مزدوجة الاتجاه من لبنان الى الوطن العربي، ومن الوطن العربي الى لبنان. العروبة لديه ليست فكرة تعن على البال، وتختفي أو تظهر أحياناً، بل هي كيان عاشه بكل جوارحه. أوجاعه عربيته. ربما أغلق صحيفته لأنه وجد بأنه ليس هناك ما يُقال إلا عن المآسي العربية، ولم يرد أن يكون ندّاباً. تحمس للثورة العربية التي عبّرت عن كل عربي، سواء شارك فيها أم لم يشارك، ورآها تتحوّل على أيدي حكام العرب الى حروب أهلية واقعة في أقطار عربية، ومحتملة في بقية الأقطار. بعد بارقة أمل أطلت في العام 2011، خيّم ليلٌ شديد الظلمة على الوطن  العربي بفعل الثورة المضادة. الطغاة العرب يعربدون، هم وخصومهم من الإسلام السياسي، في صراع مرير على السلطة. يقبض طغاة الاستبداد على السلطة السياسية، وأدعياء الإسلام السياسي على المجتمع. كما قال نزار قباني: “لم يعد عندي ما أقوله”.

براعته في الكتابة السياسية على الصفحة الأولى لم تكن أقل من وجدانيته في “هوامش” على صفحات الملحق الثقافي الأسبوعي.

طلال سلمان شخصية متعددة الجوانب، مسبوكة في كلًّ شديد التعقيد، من فقر القروي البائس إلى إبن المدينة المتسكّع، ليحصل على وظائف تدرجت من مصحح في مطبعة الى رئيس تحرير وناشر لصحيفة اختصرت أوجاع الوطن العربي. كان فخوراً بنشأته وماضيه. بقيت “الدبكة” أشد ألوان الفرح لديه، وهو الذي أحيا سهرات في بيته شارك فيها بعض أساطين الغناء العربي والموسيقى العربية.

لا يعرف لبنان بنظامه السياسي أو الاجتماعي بل بحرياته التي كانت الصحافة درعها الواقي، وطلال سلمان أبرز ما فيها. وما تعرّض له شخصياً، وتعرضت له صحيفته من هجمات الميليشيات من جميع الاتجاهات، وكنت شاهداً على إحداها، وحنق السلطة عليها لدرجة فرض إقفالها لأيام أو أسابيع، إلا الدليل الواضح على ذلك. وقد دخل طلال سلمان السجن قبل “السفير”، فكانت صحيفته احدى مناشير النضال العربي في لبنان.

هو من جيل الخيبات، من 1948 الى 1956، الى 1967، الى 1973، الى كامب دايفيد، الى أوسلو والعديد العديد من الخيبات.

نعم، جيلنا هو جيل الخيبات والمفاهيم الخاطئة. جيل النكبات. ولدى النُخب يقين بأننا لا نستطيع الخروج من الهزائم والنكبات.

يطوي طلال سلمان حياته والأمل أبعد منالاً، والخيبات تعطي لوجودنا المرارة. ربما كان ذلك سبباً آخر لإغلاق صحيفته، إذ لم يعد للصحيفة مكان تستطيع منه أن تشع فكراً صحيحاً. لم يعد لفلسطين مكان، علماً أن هذه وحدها بداية تلمس الهزيمة وآثارها، وبداية الخروج من ما يمكن أن يحقق النصر. والنصر لا يكون إلا بتحوّل اجتماعي سياسي، يتخلّص من الاستبداد، ويرسي دعائم مجتمع مفتوح، وتكون فيه الحريات الشخصية أساساً، ويكون الرأي العام هو ما يقرر للحكومة سلوكها.

الجيل الذي عاشه طلال سلمان لم يكن صورة عن مجتمعه، أو ما آل إليه . فهو ما زال جيل الهزيمة، ولدى كثير من النُخب جيل يقينيات أثبتت تطورات العقود الأخيرة عقمها، وتكرارها ما زاد الهزيمة تجذراً.

عاش طلال سلمان حياة مليئة بالنضال والخيبات. فكأنه كان في غير زمانه. يرحل طلال سلمان، ولا يغيب عن البال ما قاله لبيد بن ربيعة:
“ولقد سئمت من الحياة وطولها، وسؤال هذا الناس كيف لبيد”.

إذ حان وقت الذهاب الى يوم الحساب، فتكون المحصلة أن الرجل قام بكل ما عليه، ناضل حتى الرمق الأخير، وكنا نتمنى أن نذكر عظمائنا الراحلين أمثال طلال بالانتصارات لا بالهزيمة. رحل طلال سلمان وهو خسارة لا تعوّض.

نشرت في موقع 180 بوست

Exit mobile version