طلال سلمان

طلال سلمان بين تحد العروبة واللبننة

عرفتُ طلال سلمان منذ أكثر من ثلاثين سنة، وعملت في جريدة “السفير” لسنوات طوال كصحافي في القسم السياسي، في مرحلة كانت الأكثر صخباً والأكثر حرجاً بأحداثها المفصلية بالنسبة للبنان وللجريدة نفسها. إنها مرحلة تنامي المعارضة للاحتلال السوري، الذي كان يطلق عليه في الجريدة توصيف “الوجود السوري” أو في أحسن الحالات “الوصاية السورية”، وهي المرحلة التي شهدت اغتيال رفيق الحريري وانتفاضة 14 آذار التي أجبرت الجيش السوري على الانسحاب من لبنان، والتي ردّ عليها “حزب الله” بافتعال حرب تموز وابتداع “النصر الإلهي” الذي لم يبلعه كثيراً طلال سلمان، والذي مهّد لوضع يد حسن نصرالله على قرار السلطة في لبنان.

كان سلمان شخصيةً ودودة يشوبها بعضٌ من حذر، شغوفاً بالصحافة وصاحب حسٍّ مهنيّ بامتياز وصانعاً للخبر في كثير من الأحيان. مرحلة الستينيات ونكسة حزيران 1967 صنعت منه قومياً وعروبياً، حيث استقرّ وبقي طيلة حياته رغم التغيّرات الهائلة التي عصفت بالعرب والعالم. ودفعه شغفه وطموحه إلى إنشاء جريدة التقط لحظتها وتلمّس طريقها في صعود اليسار وفي الموجة القومية العاطفية التي تلت وفاة عبد الناصر، والتي أنعشت أيتامه أمثال القذافي والنميري ومن لفّ لفيفهما.

وفي لبنان كانت اللحظة مؤاتية، كانت بيروت عاصمة العرب تعج بالمثقفين وعصف الأفكار وصعود اليسار والمعارضين اللاجئين من كل حدب وصوب. كانت “السفير” محاولة للتوفيق بين القومية واليسار على خلفية التقاء التيارين حول قضية الشعب الفلسطيني، قبل أن تنكشف الأنظمة القومية والعروبية على حقيقتها الشمولية والقمعية ومتاجرتها بفلسطين، إن كانت أنظمة بعثية كما في سوريا والعراق أو ناصرية كما في مصر والسودان وليبيا. وهذا ما صعّب المهمة والدور على سلمان و”السفير” وبدأت المساحات تضيق… التحدّي لبنانياً لم يعد بين مؤيد ومعارض للقضية الفلسطينية، وبالتالي يسري عليه مصطلح “انعزالي” أو “غير وطني”، إنما بين من يريد لبنان بلداً خاضعاً للعروبة وأنظمتها ومن يريده حرًّا تعدديًّا ومتنوّعاً، يرفض الخضوع حتى للعربي وإن كان جاراً، ويريد أن يكون صاحب قراره، بغضّ النظر عمن يسعى إلى ذلك أو يطالب به.

اغتيال الحريري وضع سلمان أمام خيارات صعبة، سوريا (ونظامها الأسدي) كانت مرجعية شبه ثابتة بالنسبة له، إذ كان يردد باستمرار أنّ “دمشق هي قلب العروبة”. لذلك، كان صعباً عليه تقبّل أنّ النظام السوري متورط في الجريمة، لدرجة أنّ أيّ مقال يتناول هذا الأمر أو يلمّح له في الجريدة كان يثير حساسيته. وكما كانت قضية فلسطين همه وهاجسه كان صعباً عليه تقبل أي نقد لمسار أو نهج أيٍّ ممن يحسب على هذا الخط، ناهيك عن أنّ من يحمل السلاح يصبح على حق بغض النظر عما يقول أو يفعل. وقد احتجّ علي يوماً عند كتابتي مقالاً يعترض على “قدسية” السلاح تعليقاً على ما وصف به نصرالله سلاح حزبه.

فهل كانت هذه قناعة سلمان؟ يوم اندلعت حرب تموز توقفت عن الكتابة في الجريدة لأنني كنت ضد تلك الحرب التي افتعلها “حزب الله” إلا أنني لم أرد أن أسير بعكس توجه صاحب الجريدة، الذي كان يطلّ متفقداً القسم السياسي خلال الحرب. كان هناك تنوع في القسم ولم يكن بيننا أي صحافي ينتمي إلى “حزب الله”، وذات يوم دخل علينا سلمان وقام بجولته مستطلعاً وعندما أصبح قرب مكتبي علق قائلاً: “شو صار الكل مع حزب الله؟”. علماً أنّ قراري بالامتناع عن الكتابة أثار جدالاً طويلاً وحاداً مع الأستاذ طلال وعكر العلاقة بيننا، على خلفية قناعته التي أكدها لي بأنه عندما تقع الحرب مع إسرائيل فـ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” (عبد الناصر). وبغض النظر عما قيل حول علاقة سلمان بـ “حزب الله” غير أنني لا زلت أعتقد أن أقسى وأصعب ضربة وجهت لـ “السفير” وصاحبها هي تشجيع “حزب الله” وتمويله إنشاء جريدة “الأخبار” التي كانت من أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت طلال سلمان إلى اتخاذ قرار الإقفال!

موقع هنا لبنان

Exit mobile version