حين تترجل وترحل عنَّا تزداد أوجاعنا.. وتزداد أحزان عروبتنا. يبدو أنه لم يعد يكفي أن تُمتهن عروبتنا وتُمتهن كرامتنا كل يوم بفضل حُكامنا؛ حُكام الطوائف والفواجع؛ فيأتي رحيلك ليزيدنا احباطاً نحن أبناء الجيل العربي الذي آمن بجمال عبدالناصر.
وبرغم صمتك النسبي في السنوات الثلاث الأخيرة؛ حيث كنت تقاتل المرض؛ إلَّا أننا كنَّا نأتي إليك في بيروت لنراك تجلس خلف مكتبك الأنيق نفسه، فيما تنتظر الأوراق البيضاء قلمك بشغف لتخط عليها برصاص حبرك الدفاق، من دون أن تترك فنجان القهوة والسيجارة ساعة واحدة.
كنت تُحدثنا بكلمات مقتضبة عن وجعك من حالتنا العربية التي تزداد سوءاً، وكيف أصبحت غير قادر على زيارة دمشق في سالنوات الأخيرة، وهي العاصمة الأقرب إلى قلبك، كما هي القاهرة غالية عليك.
كنت تحدثنا عن احباطك بعد أن أحبط النظام الرسمي العربي انتفاضات الشعوب العربية وثوراتها ولا سيما في ليبيا ومصر وسوريا واليمن.
***
كنت تتعمد أن تخفي عنَّا وجعك لقرار إغلاق صحيفتك “السفير” التي جعلتها منبراً لكل عربي ولكل صاحب قضية، و”صوت الذين لا صوت لهم”.
كنت تخفي عنَّا أوجاعك وآلامك الجسدية لتقول لنا إنك صامد في زمن “العهر المفتوح” هذا.
كنَّا نسألك إلى أين تمضي أمتنا؟ وهل هناك هوان أكثر من الهوان الذي بلغته؟ وأعترف أنك كنت تلتزم الصمت.
هل لأنك استسلمت؟ أجزم بالقول: لا.. لأننا عرفناك مقاوماً.. قاومت، وقاومت من أجل أن لا تتوقف “السفير” عن الساحة الإعلامية والسياسية.. وبعت ما تملك من أراضٍ من أجل أن تبقى الصحيفة، ومن أجل أن لا تُرتهن لأكثر من نظام كان مستعداً لشرائها.. ولكنك لم تستطع أن تكمل المشوار. فكما قلت انتهى عهد الصحافة المكتوبة، ولم يبق سوى إعلام الأنظمة، وهو إعلام “عاهر” لأن من يمتلكونه “عهرة”.
***
أتذكر أول مرة تعرفت فيها عليك في العام 1980 حين أتيت إلى الرياض ضمن وفد يضم رؤساء تحرير الصحف اللبنانية لمقابلة العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، عندما كان ولياً للعهد حينها. ووسط هذا الجمع من كبار الصحافيين اللبنانيين، أعطاك الملك فهد اهتماماً خاصاً، بأن أقدم على خلع عباءته وألبسك إياها. هل ذلك لأنك كنت معارضاً للسعودية؟ أم لأنك تكلمت أمامه عن اعتزازك بناصريتك وعروبتك وإيمانك بقضية فلسطين؟
سأفشي سراً تعرفه أنت لأني قلته لك: برغم أنك كنت تبدو معارضاً للسعودية بسبب علاقتك بالزعيم الليبي معمر القذافي، إلا أن العاهل السعودي الراحل، الملك عبدالله بن عبد العزيز، كان يُحبك ويودك، في حين أن الملك سلمان بن عبد العزيز وأخيه الأمير طلال بن عبد العزيز كانا يكنان لك كبير الاحترام. وهل تذكر مرة حين جمعتك مناسبة في الرياض بالأميرين، طلال وسلمان، وقلت لهما “ها أنا ذا طلال وسلمان”.
***
حين التقينا في تلك الأيام الجميلة، كنت متحفظاً معي لأنك إعتبرتني سعودي الهوى، ولكن حين عرفت أنني ناصري وقومي عربي قبل أي شيء آخر بدأت رحلة صداقتنا المستمرة منذ أكثر من أربعين عاماً.
قد تختلف المواقف وتتبدل الأحداث، ولكن بالنسبة إلى طلال سلمان كانت العروبة ـ ولا معنى لها بلا فلسطين ـ هي الخط الأحمر..
تعرض طلال سلمان لمحاولات اغتيال عديدة كما لمحاولات الشراء ولكنه ظلّ يقاوم، وبقيت “السفير” جريدة كل العرب، وجريدة كل صاحب قضية عادلة في لبنان والعالم بأسره. وبالفعل، بقيت صوت الذين لا صوت لهم.
***
صديقي؛
هل تتذكر حين لم أجد منبراً أكتب فيه حين بدأت أنظمة الطوائف تُهيمن على الصحف ففتحت لي صفحات جريدتك لأكتب عن عروبتي ضد أنظمة الطوائف تلك.
صديقي؛
بعد أن رحلت عنَّا من يبقى لنا في بيروت ولبنان؟ من يبقى حامياً لعروبتنا؟ الأصدقاء المتبقين؟ أم تلاميذك، تلاميذ مدرسة “السفير” الذين عاشوا أيام عز الجريدة، أي أيام عز العروبة والمقاومة.
وداعاً يا صديق عمر الزمن الجميل، وصديق زمن الإحباط.
نشرت في موقع 180 بوست
