أن أتحدث عن “طلال سلمان”، فتلك مهمة من الصعب تلبيتها، بل لقد تردّدت في البدء عنها، لأنّني أخشاها…
أخشى معها، أن أختصر التاريخ باختصار مراحله، أخشى معها، أن أظلم هذا المناضل الكبير، أخشى معها أن أجعل فرح ذكرياتنا، ضامراً وضعيفًا، وأن لا أعبّر عن الألم الذي رافق مراحل حياتنا في القسم الأكبر منها…
ليس سهلاً، أن نصل إلى مستوى فرحه في الانتصار…
ليس سهلاً، أن نصل إلى حدّة ألمه مع أيّ انتكاسة…
والأهم انه ليس سهلاً أن نكون في مستوى الأمل والحلم الذي أتى به من ريفه الصلب إلى المدينة، كل المدينة، إلى العرب والعالم… أتى به ولم يفلته رغم كل الظروف التي فتتت فيه القلب والجسد الفيزيائي، فبقي الحلم… لم أعرف ولا نعرف أين خبأه ويخفيه حيناً…ليعيد إشهاره في وجه من تآمر على قتله وظنه انتهى…
بالنسبة إلى جيلنا، عرفناه مع “السفير” وبها ومن أجلها، من أجل صوت الجميع وبخاصة ممن كان صوتهم يبعد عن وسائل أخرى…فكان، أو فكانت، هي أيضاً صوتي.. صوتنا.. صوت كل ديمقراطي تقدمي، في لبنان والعالم العربي…
لم تُبَحَّ أصواتنا، إلاّ في الحالات التي بُحَّ فيها صوت “السفير”، فكانت بيضاء دون أن تمتنع عن الصدور في ظل الاحتلال والمراحل التي تلته في لبنان، بحضوره المباشر وغير المباشر…
والألم الذي يتولد به الحلم، كان دائماً على كل المستويات عند (طلال–السفير) فبعد سلسلة الهزائم وانتكاسات مشروع التحرر العربي، الذي بدأ برحيل أحد أبرز من أحبهم طلال إلى حد اقترانه الدائم بـ “السفير” وأعني جمال عبد الناصر.. كانت أقوال هذا الزعيم الكبير الرفيق اليومي لـ “السفير” و “طلال”، ومن الألم كانت هذه المقولات – الجمل الصغيرة تحمل بذور الأمل، فلا زعيمَ آخر سيحل محل، عبد الناصر، بل حالة شعبية، ستكون بانتفاضتها، استمراراً للنهج العروبي التقدمي، الذي به يمكن توصيف “السفير” …
فكانت “السفير” محور التفاعل بين الأقلام، التي التجأت إليها، من أصوات الاحباط والاستسلام، تستسقي الأمل من ذاك “المبشر” الحالم وشبه العاشق، الكبير بتواضعه، الصلب بحلمه…
وكان ما توقع، أو ما كان حاسماً بحصوله، ها هي الشعوب التي آمن بها تنتفض وبشكل خاص شعب مصر…ومن كان سواه يرى من سواد تلك الحقبة، من سواد تجربة مبارك وقبله السادات وبعده مرسي، من سواد تلك الحقبة، كان يرى طلال سلمان، ما رأيناه منذ أيام، قبر “جمال عبد الناصر” يفتح للآلاف، تأتي لتقول، أنك لاتزال حاضراً في كل حنجرة كانت مبحوحة، أتت انتفاضة “يونيو” مكملة “يناير”، وكأن من لم يكن لهم صوت، أخذوا بعضَ صوتها من صوت “السفير”، ليهتف للحرية والعدالة والكرامة الوطنية…
وفي زاوية ثانية من زوايا الألم، تسكن فلسطين، يسكن ياسر عرفات وجورج حبش، وفي إحدى صفحاتها أشلاء غسان كنفاني، هي أشلاء قضية فلسطين التي قطّعها حكام العرب، يحتفط في حنايا “السفير”، بهذه الأشلاء، لأن حلمه–القضية، سيجمعها يوماً ما، في مقالة، في خطة، في موقف، يرفع فيه دائماً صوت حق الشعب الفلسطيني بدولته وبعودته…
ومع هذا الانحياز، ومع هذه “اللغة الخشبية”، وجميل أن يستطيع الخشب الحلمَ.. كل شعوب العرب حاضرة، فتعرض “السفير” تناقص المليارات المنهوبة برضى وتآمر عربي، مع الجوع والاقتتال والفقر يملأ ساحات “فقراء العرب” من الدول، من السودان إلى الصومال إلى مصر إلى سوريا ولبنان ودول المغرب…. يحلم “طلال” وتعمل “السفير” كي تستعيد هذه “الثروة العربية” دورها في تنمية شاملة، هي حق فقراء العرب وشعوبهم…
إلى لبنان، الذي رآه طلال أولاً من شمسطار والبقاع المهمل والمحروم، واتى بهما إلى بيروت، ليراها مع ضاحيتها، ومع كل منطقة من لبنان، من عكار إلى الجبل والجنوب، لا تختلف عن شمسطار…حمل معه انحياز الأم، لوليدها، انحياز الأب للكرامة، انحياز الأهل للحق بوجه الإقطاع والظلم…حمل معه حسّ مقاومة، ما أسموه القدر وهو يؤمن انه ليس القدر، بل فعل القادرين…
انحياز الأم، وانتماء الأب وانتفاضة الضيعة، حملها وجسدها في حلم مستمر، هو حلم المقاومة على كل المستويات، في العالم والعالم العربي، وبخاصة في لبنان… وجسّد المقاومة انتماء لحق العدالة للجميع، في مواجهة الفقر، ومع الفقراء فكان الرفيق الدائم لنضال العمال والفلاحين ومقاومتهم من أجل رغيف الخبز والحق والأمان الاجتماعي…هكذا كان هو وهكذا، كانت “السفير”….ولاتزال.
وجسّد المقاومة انتماء لحق المواطن في وطنه، في المواطنية على حساب انقسام أوجده الاستعمار ومحتكرو ثروة الوطن، تنوع كان يمكن أن يكون غنياً لو كان تحت مظلة الوطن، فحوَّلوه إلى خصي للوطن وسجن تحت مظلة الانقسام، فكان و”السفير” ، مقاوماً من أجل الوطن المدني الديمقراطي المنتمي بحسه التقدمي للعروبة…
وجسّد المقاومة، ارتباطاً بالأرض والشعب، وحقاً بالتحرير متلازماً مع الأمل بهذا الوطن الحر الديمقراطي، فكانت “السفير” صوت المقاومة حين حاولت السلطة اقتلاع حنجرتها بعد الاحتلال، فإذا كان الحزب والمنظمة (الشيوعيين) هما الأب الذي أعلن وأعطى الهوية، كانت “السفير” الأم المحتضنة والراعية والموصلة للصوت المقاوم، وبخاصة بعد أن بُحَّ صوت “النداء”…
وهذا الصوت المقاوم، استمر مع المقاومة بكل انتماءاتها، ومعه إصرار على وظيفتها الوطنية ودورها في عملية التغيير…
ولأن له هذا الأفق، كانت صفحات حبيبته “السفير” ، ملتقى الحوار والتفاعل الذي يجاور الصراع، دون أن يغرق فيه… كان التفاعل والتصادم على صفحاتها ولا يزال فعل انطلاق الشرارة المولدة للأمل الدائم، بفكر وفن تقدميين مبدعين ومنفتحين باتجاه المستقبل..
ولأنه كذلك، كان إلى جانب الاحتضان الدافىء لكل جديد، قاسياً وحاداً في ملاحظاته، تجاه من يحب ويحتضن، أكثر بكثير منه تجاه الآخر…فهدفه ليس الصراخ في وادٍ، بل تحقيق التناغم بين الأصوات، والتكامل في الفعل التغييريّ باتجاه الحلم لا باتجاه العدم….
وهو “على الطريق” دائماً ينثر الأسئلة – التحديات، وينثر الألم والحلم في معركته الدائمة ضد اليأس والاحباط، وفي محاولة لاستيلاد مشروع يحمل معه هذه البذور….
منذ ان تابعتُ “السفير” (منذ انطلاقتها) وأنا أشعر كم عانت وستعاني هذه الصحيفة- المشروع، كم ستحاصر، كم سيناضل محرروها، إدارتها وعمالها وربما كم سيجوعون… وكنت أخشى عليها دائماً مثلهم وذلك ليس تعاطفاً معهم ومع “ابي أحمد” بل خشية على “صوتنا”…
وسأختم هنا، لأن الإطالة لن تحقق هدف الإحاطة ولن توفي لا “السفير” ولا “طلال” حقهما، بل سأفشي سراً…
لم أشعر، في خلال السنوات الماضية، بأنَّ إصدار صحيفة يومية للحزب أصبح الأولوية الإعلامية الأولى، ولماذا فهنالك “السفير”، وأعتقد بأن هذا الشعور ليس خاصاً بنا كحزب، فهو شعور حركة وتيار وعدد من الأحزاب والقوى…
والآن يا “أبو أحمد” اتمنى لك ولـ”السفير”، دوام التقدم والاستقرار حتى لا نضطر يوماً لاعتبار إصدار صحيفة يومية أولويتنا الأولى… في ذلك بعض “الأنانية” صحيح، ولكنها تلك التي تذوب، في مشروع المقاومة والتغيير الذي تمثلانه، وتنتمي له على المستويين الوطني والعروبي…
خالد حدادة
الطريق، 192013