صعب جدّاً عليَّ، أن أكتب عن طلال سلمان.
عادة، أُصاب بصمت. تخرسني الكلمات المتلعثمة.
أودّع الموت يأخذني إلى الضياع.
السبب، أنّني كنت إلى جانبه حتى آخر حرف في “السفير”. وحتّى آخر دعاء له بالشفاء. لا يعنيني أبداً أن أكتب عنه صحفيّاً وكاتباً. يعنيني فيه أنّه كان يتغلّب على الصعوبات. مؤمن بالكلمة حتّى آخر حرف. مُتابع للتفاصيل السياسية اليوميّة مسائل دائب. لا ترويه أبداً خبريّة ناقصة. السياسة والصحافة معاً، وخبران أيضاً. كان الضد الايجابي. هناك مورده وهناك مشربه وهناك موقفه.
كان صحفيّاً. هذا أمرٌ معروف. هويّته لم تكن التزاماً بصدقيّة الرواية، بل بأبعادها. الخبر عنده يظلّ ناقصاً. “أبحث بعد”. لا تركن إلى سهولة الخبريّة. تغلغل سرّاً بالتفاصيل. تفهّم الغايات. كُن مُهندس الصدق لما تكتبه وإلّا…
حيسوب الأخبار والمواقف والنتائج. بين أنامله في سحابة كتابته، كلام كثير وأسرار ليست للنشر. ولكن للعبر. السياسة في #لبنان غابة، تقريباً غابة وحوش… دخلها وخرج سالماً. ”السفير” كانت مُصابة بتهديدات. أحرقوا مطبعته. نسفوا الجريدة. حاولوا اغتياله. هجّروه إلى باريس. هناك، كان يُتابع صحيفته. لا يستريح إلا بعد اطمئنانه إلى جودة الصحيفة.
ما أعرفه عنه، هو كثير جدّاً. لكن أهم ما كنت أتلمّسه، أنّه كان علمانيّاً جدّاً، موقفاً وسلوكاً. الطائفيّة والطائفة مطرودان وغير مُرحّب بهما. حسّاس جدّاً كي لا يلجأ إلى الطوائف، من دون أن يوفِّر الطائفيّين. مرّة اقترحت عليه كاتباً، ليكتب افتتاحيّة أسبوعية. رمقني بنظرة نقديّة. قال: هذا طائفي. خلص. ممنوع السماح له. كان عروبيّاً جدّاً. وظلّ عروبيّاً برغم النكبات القاتلة التي أصيبت بها القوميّة. كان فلسطينيّاً نقديّاً. “السفير”، “صوت الذين لا صوت لهم”. صوت فلسطين والمقاومة والكفاح والنضال. تآخى مع الرسام “ناجي العلي”. الكاريكاتور الصارم والقاسي والمحرج، يطيب لطلال سلمان أن يتمتّع به وبحرارته أيضاً… وكان لبنانيّاً موحّداً. لم يتنازل عن الوطن، إلى أن فوجئ بلحظة غضب، أنّ لبنان ليس وطناً لأحد. لأن الوطن يقوم به ويحرسه مواطنون. ولا مواطنين في لبنان.
يتربّع عبد الناصر في صدر القاعة. إنّه المنارة التي لم ينطفئ وهجها عنده. علامة فارقة هو عبد الناصر.
علاقته بالمقاومة، علاقة مُقاتل بالقلم، وناقد بالصحيفة يقسو على من هم معه، ويلين مع من يخالفونه.
ثم… كانت المعاناة الأخيرة.
عندما اتخذ قراره بإقفال “السفير” ووضع الختم عليها أُصيب بنوبة ندم. جمعنا وقال: سنُكمل المشوار. سُررنا إلى أن بدأت الشمعة تنوص. تنوص.
أذكر، أنّني دخلت المستشفى ذلك اليوم. صدر العدد الأخير، وكنت قد كتبت نصّاً وداعيّاً، أظنّ أنّه كان بحبر دموعي.
لطلال سلمان إقامة دائمة، بعد غيابه.
لن ننساه.
جريدة النهار