طلال سلمان مؤسس ورئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية العريقة لعقود يتحدث -بكل تواضع- إلى صحيفة الصباحية عن واقع الإعلام العربي، حديثا يذكر بالصحفيين الوطنيين الكبار، الذين يعرفون معنى أن يكون الإنسان صحفيا ودوره وحدوده، وطالما أن الاعلام العربي رهين السلطة أو رأس المال ـ يقول الأستاذ ـ فإنه سيظل خافت الصوت ينصرف إلى نفاق السلطة وتحاشي غضب الممول، وطالما ان الخواء يلف الحياة العامة وتغيب القوة الضاربة للأحزاب والنقابات فلا شارع ولا تغيير حقيقي في وطننا العربي. وهو يعتقد أنه لا وجود لإعلام وطني (سواء كان صحيفة أو أسبوعية) بدون قضية وطنية، وأن الأكثرية من (الرعايا العرب) هم في غيبوبة القهر والعجز. وكما أن التغيير يتطلب حياة سياسية حقيقية بأحزاب ونقابات وهيئات شعبية تستولد هي صحافتها المعبرة عن همومها وطموحاتها فإن الأستاذ يعي حدود ودور الإعلام، فالطريق إلى التغيير -عنده- يتجاوز الصحافة إلى صاحب القرار به، أي الشعب. والاعلام وحده ليس قائداً – سياسياً ولا هو تنظيم شعبي لديه القدرة على التغيير. ولا يجوز -عند الأستاذ- تحميل الإعلام ما هو فوق طاقته.. خصوصا وان الانظمة السائدة في المنطقة العربية قوية كفاية، إما بذهبها او بعسكرها، او بالسلاحين الفتاكين معاً. والبدائل سياسية اساساً، واضعاً مسؤولية نزيف الطاقات الإعلامية المتميزة إلى الإعلام الناطق بالعربية الموجه للعرب اولاً، وأساساً على انظمة القمع التي تضيق على الصحافة وتريدها وسيلة للزينة متسائلا في الوقت ذاته عمن يستطيع الادعاء انه أكثر حرصا على الوطن ومقتضيات الامن الوطني من الصحافة الوطنية التي قدمت العديد من الشهداء، على مذبح حرية الوطن، او تحملت عنت الرقابة والانظمة البوليسية؟!.
اجرى الحوار: د. رياض الاخرس
من هو طلال سلمان؟
صحافي لبناني أصدر في ربيع العام 1974 “السفير” في بيروت لتكون “جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان”، وبقيت حتى توقفها عن الصدور في 2017 تتمتع بمكانة مرموقة، وخط تحريري رفيع يجمع بين التزام قضية العروبة، والمهنية الإعلامية. حصل على جوائز وتكريمات لبنانية وعربية ودولية. وله عدد من المؤلفات الفكرية والأدبية.
بداية شكرا جزيلا من القلب على هذه الاستجابة الكريمة، كيف ينظر الاستاذ طلال سلمان الى وضع الاعلام العربي ودوره المفترض في ان يعبر عن واقع الامة خبرا وتحليلا وان يستكشف بالتزامن مع الجهات الوطنية الأخرى آفاق المستقبل الصحيح للعرب وطاقاتهم المادية والبشرية؟؟
– لا يمكن الحديث عن وضع الإعلام العربي وكأنه عالم قائم بذاته ومستقل بدوره المفترض في أن يعبر عن واقع الأمة، خبرا وتحليلاً، وان يستكشف، بالتزامن مع الجهات الوطنية الأخرى، آمال المستقبل الصحيح للعرب وطاقاتهم المادية والبشرية. وطالما أن الاعلام العربي رهينة السلطة او رأس المال او من ثم “التحالف” القائم بينهما إلى حد التكامل فان الاعلام سيظل مكسر الاقلام خافت الصوت، وهكذا فان معظم وسائله تنصرف إلى نفاق السلطة وتحاشي “غضب رأس المال” وهما في موقع الشريكين عمليا. ثم أن الخواء يلف الحياة العامة في الوطن العربي، فلا احزاب الا حزب السلطة او أتباعها، ولا نقابات ولا اتحاد لنقابات العمل يجعل منها “قوة ضاربة“، لا سيما اذا كانت متقاربة فكريا مع الاحزاب السياسية او بعضها من اصحاب شعارات التغيير.. وهكذا يفرغ “الشارع” من اهله، اصحاب المصلحة في التغيير وهم الاكثرية الساحقة من أي شعب وفي أي بلد “طبيعي”، أي بلد يعيش من دخله الوطني المرتبط بعقول ابنائه وزنودهم وكفاءاتهم في ظل حكم واع ونظيف، لا يمالىء الاجنبي او “الخارج الغني” ضد اهله.
كيف يرى الاستاذ الطريق للخروج من هذا الوضع المأساوي للاعلام العربي حيث هو إما مقلدا تماما لإعلام الغرب (العادي أو الموجه منه إلينا) وهو محمل بحمولات وتوجيهات تخدم مصالح أصحابه على حساب العرب، وإما هو محلي لا يتقن فنون صناعة الاعلام الحقيقي، بسبب ضعف الامكانات او بحسب مقتضيات السياسة المحلية التابعة اساسا للغرب؟
– لا إعلام وطني بلا قضية وطنية. وبديهي أن يكون الإعلام، من حيث المبدأ، مرتبطا بأهل البلاد، الشعب، معبرا عن مطامحه ومطالبه وحقه في الحياة الكريمة. ولقد كان الإعلام، في الاصل، وطنياً، ثم تدخلت الضغوط السياسية (الحكومات) والاقتصاد (الشركات الكبرى ممثلة بتكتلات رأس المال) التي لن تتأخر عن محاربته في دخله الشرعي (الاعلان والاشتراك) وتفريخ مزيد من المطبوعات التابعة لها لمنافسة الاعلام الوطني المفترض أن الدفاع عن مصالح الشعب هو قضيته وعلة وجوده. ثم أن “العرب” بمعنى الاكثرية الساحقة من “الرعايا العرب” هم في غيبوبة القهر او العجز عن التغيير، فاذا ما هموا بذلك في أي قطر عربي تدخلت “الدول” بعنوان الغرب الاميركي (ومعه اسرائيل) فجندت جماعتها في الداخل لمقاومة هذا التغيير (بالجيش، غالباً)، او برأس المال والتنظيمات المستولدة لمثل هذا الغرض، فشوهت سمعة العاملين للتغيير، واتهمتهم بالتآمر على الاستقرار والتسبب في افقار الناس (أهلهم)… وتدل تجربتي المتواضعة في جريدة “السفير” التي عاشت في قلب الصعوبة ثلاثة واربعين عاما (1974-2017)، أن الجريدة اليومية ـ وحتى المجلة الاسبوعية ـ لا يمكن ان تعيش بلا قضية، أي بلا موقف تعبر فيه عن هموم شعبها وتطلعاته إلى مستقبل أفضل.. والا تحولت إلى “نشرة” تنطق بإسم الحكم او بإسم رأس المال واصحابه، بعيداً عن الشعب ومطالبه وطموحاته.
يتجول الانسان العربي على الصحف والمواقع العربية فلا يجد فيها إلا نادرا موقعا واحدا على مستوى مقبول من حيث الهوية والخطاب والحرفة والاهتمامات، وما هو موجود كله مكبل بقيود الرؤى الضيقة والهويات الثانوية والتمويل، واذا وجد مثل هذا الموقع فانه لا يكاد يكون معروفا، وبالتالي لا يكون له تأثير مرتجى، لماذا نواجه مثل هذه الظاهرة برأيك؟
– الطريق إلى التغيير يتجاوز الصحافة إلى صاحب القرار به، أي الشعب، فالصحافة قد تعبر عن هموم الناس، في أحسن الحالات، او تكتفي بالإشارة إلى مطالبهم، لكن التغيير يتطلب حياة سياسية حقيقية بأحزاب ونقابات وهيئات شعبية تستولد هي صحافتها المعبرة عن همومها وطموحاتحها، فتتولى كشف “النظام ” بفضائحه ومباذله، وتنشر الوعي بحيث تصبح معبراً عن الرأي العام وضمير الناس… وأخطر المؤامرات التي تعرض لها المواطن العربي أن أجهزة الإعلام، عموما، أي الاذاعات والتلفزيونات والصحف بغالبيتها، باتت ابواقا للسلطة او لرأس المال وفقدت شرعية وجودها ودورها في خدمة شعبها وأمتها. ورأس المال لا يقل رغبة في استرهان الاعلام عن الحكم المعادي لشعبه.
من المفارقات اليوم، ان كل بلد عربي يوجد فيه مواقع اعلامية مؤثرة ممولة من جهات بعينها، لا يهمها لا مشروع تحرري عربي حقيقي، ولا وطن، ولا انسان، ولكن يجد فيه أيضا عشرات، وربما اكثر من المواقع الاخرى غير المؤثرة، وربما يكون بعضها جيدا، لكنها تشترك جميعا في غياب التأثير، هل هذا الوضع صحي؟ وهل يفيد ذلك الاوطان والشعوب العربية في شيء؟
– بالنسبة اليّ كصحافي أفنيت عمري في هذه المهنة الرسالة لست ارى في المواقع الالكترونية عموماً الا فسحات للتعبير عن طموحات او آمال اصحابها، مع استثناء يتصل ببعضها التي انشأها اصحاب رأي او افكار او رغبة حقيقية في التغيير.. وهذه قليلة جداً، بل نادرة، وبالتالي فتأثيرها محدود او انها تنزع إلى المبالغة والتشهير فتفقد دورها كرسالة. والمواقع عموما فردية، وبينها قلة تابعة لمؤسسات يمولها “الخارج” العربي.. وبرغم اجتهاد القيمين عليها في محاولة الحرص على الموضوعية الا أن الكلمة الاخيرة في السياسة تبقى للممول..
هل تعتقد ان الاعلام وحده (بأنواعه القديم والجديد) يمكن ان يكون المدخل نحو وعي عربي تحرري لخروج من الواقع الحالي الذي لا يسر صديقا؟ وإلى أي حد هو دور الاعلام في التوعية والنهضة والحداثة?
– الجواب في السؤال.. ومع الاسف فان معظم هذه المواقع قد تمتع اصحابها او مموليها ولكنها لا تقدم خدمة جدية في نشر الوعي والمعرفة لمتابعيها. الاعلام وحده ليس قائداً – سياسياً ولا هو تنظيم شعبي لديه القدرة على التغيير. إن مهمته، في أحسن الحالات، أن ينشر الوعي، فيفضح اخطاء الحكم وخطاياه، وينير الطريق إلى الغد الافضل، وما تبقى تفاصيل. الشعب بجماهيره وقياداته هم المسؤولون، والصحافة مصباح يساعد على إنارة الطريق. الاعلام، في أحسن الأحوال، مصباح على الطريق، واداة لنشر الوعي وفضح الحكم الفاسد.
هل هناك بدائل محددة في مجال بعث إعلام عربي جديد وفاعل وملتزم بشكل حقيقي بقضايا الانسان العربي وواقعه وطموحه في ظل سيطرة الاعلام الناطق بالعربية سواء كان العرب أصحابه في الظاهر أم الطامعون بثرواتنا القومية وأسواقنا من الغرب او الشرق؟
– لا يجوز تحميل الإعلام ما هو فوق طاقته.. خصوصا وان الانظمة السائدة في المنطقة العربية قوية كفاية، إما بذهبها او بعسكرها، او بالسلاحين الفتاكين معاً. والبدائل سياسية اساساً وهي يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً اذا كان في “الشارع”-أي الشعب في البلاد- قوة سياسيه تفرض على النظام المعني احترام حرية الصحافة والعاملين فيها. وذات يوم من شهر ايار(مايو) 1993 لجأت السلطة السياسية إلى تعطيل جريدة “السفير” لمدة عشرة ايام، فتبرع أكثر من صاحب امتياز لصحيفة بإصدار “السفير” مكللة باسم الامتياز الآخر، وتحته اسم “السفير” وهي “حيلة مشروعة” في لبنان. البدائل سياسية، ومن ثم اعلامية. فالصحيفة اداة لنشر الوعي ولكنها ليست حزباً او قوة سياسية مؤثرة الى هذا الحد. اعطونا احزابا او قوى سياسية-اجتماعية منظمة، اضافة إلى جمهور مستعد للدفاع عن حريته وكرامته، فتكون لكم صحافة تليق بشعبها. وإذا عدنا إلى مثال تعطيل “السفير” في أيار (مايو) 1993، فان خمسمائة، محامٍ تبرعوا بالدفاع عنها امام محكمة المطبوعات.. كما أن مكاتب “السفير” قد شهدت تظاهرات يومية من جماهير المتضامنين، قوى سياسية وهيئات وجمعيات وافراداً يؤمنون بحرية الرأي والمعتقد، وبالتالي بحرية الصحافة. اما في مجتمعات يحكمها اباطرة الغاز والنفط، حكماً فرديا بقوة السلالة ودعم الخارج (الذي يدافع عنهم باعتبارهم بعض مصالحه) فان مثل هذه التظاهرة لا مكان لها وليس لها، مع الاسف، الجمهور المستعد للمواجهة.
كيف ينظر الاستاذ الى عمل الطاقات الاعلامية العربية المتميزة لدى وسائل الاعلام الاجنبية الناطقة بالعربية والتي تستبيح الفضاء الاعلامي والثقافي والفكري العربي لغير صالح أوطاننا العربية وهو أمر يصب في خدمة مصالح الآخرين على حساب مصالحنا الوطنية والقومية وامننا القومي؟
– مع الاسف فان هذه الطاقات العربية بعامة ما كانت لتهجر اوطانها لو انها وجدت فيها المناخ الذي يسمح لها بكتابة او نشر مثل ما تكتبه او تذيعه في الخارج. فالحرية اغراء لا يقل اهمية عن الذهب الذي يتقاضاه مثل هؤلاء الزملاء، مع الاحترام لجهدهم، الذين يمكن أن يفيد منه، ولو جزئيا، الشعب المقموع. بغض النظر عن الرأي الشخصي الذي يميز بين هؤلاء الزملاء على قاعدة الولاء للوطن والامة، او بيع الاقلام للأجنبي بإغراء حرية القول والكتابة، فان المسؤولية تقع، اولاً، وأساساً على انظمة القمع التي تضيق على الصحافة وتريدها وسيلة للزينة والتبخير للحاكم، وعرض “المظالم” على اصحاب القلوب الرقيقة من الحكام، الذين يدعون جهلهم بواقع الحال في بلادهم..
هناك ظاهرة انتشار قنوات ومواقع وصفحات اعلامية بهويات فرعية وثانوية ودينية ومذهبية بشكل لافت للنظر، هل هي صحيحة باي معنى من المعاني؟ ثم أليس لها تداعيات على تفتيت مقومات اوطاننا وشعوبنا؟ ولماذا لا ترتفع أصوات مؤثرة للتحذير من هذا الخطر؟
-انها ظاهرة مرضية تبرر نفسها بالقمع السائد والرأي الواحد المقرر والمفروض على الشعب العربي في معظم اقطار الوطن العربي.. وهي تفيد من الكبت والتضييق على الرأي وتزوير الحقائق أو تمويهها لإرضاء الحكم واصحاب الرساميل والاجنبي باسم الحرية والديمقراطية و”حق الشعب” في أن يعرف!..
كيف تنظرون الى دور القنوات والمواقع التي تدار من الخارج وباجندته وتوجه الى بلدان اخرى وتعالج قضاياه المحلية بعيدا عن اي دور في المحاسبة فيما لو لعبت دورا له نتائج سلبية وكيف يمكن الجمع بين حرية التعبير من جهة ومقتضيات الامن الوطني والقومي؟
– هذه القنوات التي في الخارج تقدم شهادة مجانية لحق الرأي في الخارج، بينما القمع في الداخل يمنع حق الاعلام في أن يبلغ الجمهور بحقائق الوضع في بلاده. وباختصار فان ما في الخارج هو شهادة للدول التي تسمح لهذه القنوات والمواقع على حساب الوطن وأهله، خصوصاً وانهم لا يملكون القدرة على محاسبتها. أما الجمع بين حرية الرأي والتعبير من جهة ومقتضيات الامن الوطني من جهة أخرى، ففي أكثر من بلد عربي يتمتع اهله بهامش من الحرية لعبت الصحافة دوراً مقبولاً في خدمة قضايا شعبها. فمن يستطيع الادعاء انه أكثر حرصا على الوطن ومقتضيات الامن الوطني من الصحافة الوطنية التي قدمت العديد من الشهداء، على مذبح حرية الوطن، او تحملت عنت الرقابة والانظمة البوليسية بينما هي هي التي تسيء إلى الوطن وكرامة انسانه.
تنشر بالتزامن مع جريدة الصباحية الالكنرونية