في مقال له بعنوان “الراحل وحيداً” كتب “أبراهيم الأمين” رئيس تحرير جريدة الأخبار اللبنانية عن الراحل “طلال سلمان” يقول: “لو أنك كتبت أنت الرثاء وأعفيتنا جميعاً من هذا الحمل، لو أنك، أنت، قلت ما تحب أن يقال فيك، وأن يحجب عن اسمك ما كنت راغباً في محوه، لو أنك قلت لنا كيف تحب رسم صورتك في لحظة الغياب، لو أنك قلت دعكم من هذه الحكاية، وتلك الرحلة، ولا تقفوا عند هذا التل، وعودوا بي الى حيث رغبت في أن أكون في لحظة الوحدة. فمن منا يقدر على تخيّل ما كنت تفكر فيه أخيراً. لو فعلت ذلك لرسبنا جميعاً في امتحان الحديث عنك، وربما، لو أتيحت الفرصة لكل من يريد تذكّرك، أن تكشف فيه علامات الضعف إن قصّر أو بالغ في الكلام، وكان سيكون لضحكتك أن تسخر من كل ألاعيبنا”.
أسفعتني كلمات “أبراهيم الأمين” عند بدء الكتابة عن الراحل “طلال سلمان” الذي غادر إلى الأبد تاركاً خلفهُ إرثاً غنياً من شجاعة الكتابة عن فلسطين، وجرأة القلم الذي يفضح زيف الموقف الرسمي العربي الرجعي، وصراحة الكلمات عن صدق البنادق التي تًصوب بشراسه على صدر المشروع الصهيوني، وأكثر نحو الحدود التي رسمتها سايكس بيكو، ولهذا السبب استمر سلمان بالكتابة رغم كل شيء، فاضحاً مرضها الخبيث الذي ينهش أحلام الأمة العربية.
لم يمت سلمان بتوقف القلب عن النبض، بل كان الموت الحقيقي على قتل الثقافة وإبداع النص في الانفجار عند قول المحظور، ولذلك استمر أيضاً يكتب سلمان رغم استشهاد ناجي العلي، و غسان كنفاني ، وغيرهم الكثير، وأكثر رغم إغلاق جريدة السفير أيضاً عام 2017، مؤمناً أن الصحافي ذو البعد الإنساني يمت عندما يتوقف القلم عن النزيف بغزارة صانعاً بهذا القلم التاريخ الإنساني.
يغيب طلال سلمان اليوم جسداً داخل التابوت، راكضاً على أكتاف محبيه نحو النوم الأبدي، ويصمت وجهه المبتسم بهدوء، وعيناه بقيت شاهده على أحقية التاريخ للشعب الفلسطيني، ويداه تتشابكان بقوة ممزوجة بالهدوء كما كلماته، ولكنه لم ينطفئ داخل النص، وبقي حياً أكثر داخل القلوب والعقول، ولذلك لم يكن هذا المشهد هو مشهد الوداع كما يحلو أن يسميه البعض، بل أن الوداع الحقيقي لمن يقف مع فلسطين هو عندما نتوقف عن الوعي، وأكثر عندما نتوقف عن الثقافة، بل وقراءة سلمان، حيث كان سلمان يكتب لفلسطين أكثر من بعض الفلسطينيين أنفسهم.
يرقد طلال سلمان بين الجدران الأربعة وهو يستهزئ من الموت، فالقضية ليست بالموت الحتمي للجسد تحت التراب، بل كانت في ما سيقوله الأخرون عنك، ولهذا قالوا في سلمان: “أنه صحفي من الطراز الأول، وأكثر في الصف الأول من أجل فلسطين”، فلم يقم سلمان بالتحالف مع الشيطان عندما خانته الملائكة، وبحث عن فكرته النبيلة قبل أن تحصد أمريكا الأفكار النبيلة من بعض العقول العربية، وقرع جدران الوعي للفقراء، والبؤساء، والجائعون في الهلال الخصيب خوفاً من أن تزرع إسرائيل في رأسهم كما كان يقول مظفر النواب، لأن سلمان كان يعلم أنها زُرعت في بعض الرؤوس عندما قالوا: “ماكاو أوامر”.
يقوم سلمان الآن بتعديل وسادة الموت ليريح الجسد بعد أن سَعَى خمسة وثمانون عاماً ليريح العقل العربي، حيث لم يكن طوال هذه السنوات ينم إلا وهو قلقاً على كتاب التاريخ الذي يضعه الطلاب أمامهم على مقعد الدراسة في الصفوف المدرسية، ولماذا كتاب التاريخ؟
لأنه في الوطن العربي يتعلم الطلاب كل شيء عن التاريخ إلا تاريخ مهزلة التعايش السلمي، ومهزلة جارتنا إسرائيل.. حبيبتنا إسرائيل كما قال مظفر النواب أيضاً، وأكثر لا تتحدث هذه الكتب عن مؤتمر بازل، ووعد بلفور، وسايكس بيكو، والهجرة الصهيونية، وسرقة أطباق الفلافل، والتطريز الفلسطيني، وكامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو، والاستيطان، والشهداء، والعلم الفلسطيني…، بل وأكثر لا تحتوي هذه الكتب على فلسطين التاريخية.
نطق سلمان بالحقيقة كل الحقيقة للجماهير كما كان يدعو الشهيد “غسان كنفاني”، ولم يجف حبر قلمه عن قول الحق يوماً، لأن هذا القلم كان حراً، فلم تكن الإغراءات التي قُدمت لسلمان، إلا حقيقة واضحة لخيانة الأنظمة العربية التي قدمتها، ولذلك عاش سلمان جائع في سبيل أفكاره التي ناضل لأجلها طوال مسيرته، لأنه كان يعلم أن الرصاصة تقتل شخصاً واحداً، ولكن الفكرة تقتل جيلاً كاملاً، فكانت كلماته قارباً لينجوا بنا، أما قلمه فكان يُجَدِّفُ به نحو العدالة للشعوب، وخصوصاً شعب فلسطين، وأكثر نحو الإنسانية لهذا العالم.
في نهايات عام 1973 أطلق “طلال سلمان” جريدة “السفير” تحت شعار “صوت الذين لا صوت لهم”، وكانت الواجهة الأساسية التي تعبر عن روح الجريدة _اللوغو_ تحمل شعار “الحمامة” ولونها برتقالي، فالحمام هنا هو حامل الرسائل، والبرتقال يعني الشام وفلسطين، وجاءت هذه الجريدة بعد حياة حافلة بالعمل الصحفي، كان أول ثمارها عندما علق عمداً أستاذه مواضيعه في الإنشاء على أبواب دكاكين القرية أذناك.
ماذا عن بعد الرحيل إذاً، حيث هنا الدعاء وحدة لا يكفي، وأيضاً البكاء كذلك؟ لربما كان يقصد سلمان بكلماته أننا نحتاج لشيء أخر، كأن نحمل السلاح تحت راية فلسطين، فالسلاح عندما ينسجم بشكل حقيقي مع الكلمة نصبح أكثر قدرة على ألا نصوب البندقية نحو صدورنا كما كان يقول “جورج حبش “، وهذا ما كان يسعى من خلاله سلمان عبر الإعلام النضالي، وأيضاً ما بعد الرحيل ليس الحب لسلمان فقط، وليس قراءة سلمان…، بل هو الوفاء لفلسطين التي في سبيلها كان يكتب طلال سلمان.
يقول “غسان كنفاني”: لقد حاولوا أن يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن.. وبذلوا، يشهد الله، جهداً عجيباً من أجل ذلك.. ولكنني مازلت موجوداً رغم كل شيء”، وفي نفس السياق حاولوا ذلك مع طلال سلمان، ولكنه بقي موجوداً رغم كل شيء، وسيبقى موجوداً رغم غيابه المر لأنه لن ينطفئ أبداً.
موقع مجلة الهدف