«الرحلة كان لا بُد لها أن تنتهي».. هكذا كتب قبل سبع سنوات وهو ينعى جريدة «السفير» في وفاتها الأولى، حين أجبرتها ظروف لبنان والمنطقة على توقف إصدارها الورقي بعد أكثر من أربعة عقود من إصدارها الأول أواخر العام 1973.
طلال سلمان، الذي كُتِب له أن يرحل الجمعة 25 أغسطس 2023 عن عمر ناهز الـ85 عاماً، لم يهبط على صاحبة الجلالة بـ«باراشوت»، ليصنع اسمه الذي صار علامة في تاريخ الصحافة العربية المعاصرة، بل ولج بلاطها في نهاية خمسينيات القرن الماضي، متدرجاً من مصحح إلى مخبر صحفي إلى محرر، ثم قيادي ضمن أسرة تحرير عدد من المطبوعات، وصولاً إلى تأسيسه جريدة «السفير».
استطاعت الجريدة الجديدة على يديه، وفي وقت لافت، أن تحتل مكانها إلى جانب جرائد ومجلات لبنان العريقة، وصارت مدرسة من مدارس الصحافة اللبنانية، والعربية عموماً؛ بل تحولت إلى حالة وطنية، بدأت تتشكل مع بداية الحرب الأهلية في بلاده، ولم تكد بعد تدخل العام الثاني لولادتها. من هناك، وفي مناخ تداخلت فيه الحرب مع السياسة، وتداخلت فيه الأدوار بين الداخل والخارج فيما صحّ أن يسمى «حرب الآخرين» على أرضه، استقطبت «السفير» للبنان نخبة وطنية من الصحفيين والكتَّاب والمثقفين، اللبنانيين والعرب، المحسوبين في العموم على التيار القومي واليساري.
وكان لا بُد للقضية الفلسطينية أن تتجلى في هذا التوجه الذي رسمته الجريدة، ومؤسسها الذي كانت تربطه علاقات وثيقة بالقيادات الفلسطينية، فكانت فلسطين الحاضر اليومي في صفحات «السفير» عبر سلاسل من التغطيات الصحفية والمقالات والتحليلات بأقلام نخبة من الكتَّاب اللبنانيين والعرب، وكان كاريكاتير الفنان الراحل ناجي العلي السمة البارزة في كل هذا، حتى كاد يتحول عنوانا آخر لاسم «السفير».
وفي صيف 1982، وجدت الجريدة نفسها في مواجهة مباشرة مع الغزاة الإسرائيليين وهم يحاصرون العاصمة بيروت في سياق اجتياحهم لبنان، وصمدت بطاقمها، وصارت طول فترة الحرب ملتقى للصوت المقاوم، حتى تمكن الغزاة من اجتياح بيروت، ومداهمة مقر الجريدة ومطبعتها، لتدفع ثمن موقفها الوطني والقومي، وهي التي دفعته قبل ذلك مرتين: الأولى في العام 1980 عندما استُهدف مقرها بالتفجير، والثانية كانت باستهداف رئيس تحريرها شخصياً العام 1984 عبر محاولة اغتيال كتب له أن ينجو منها، بعد إصابته بجروح تركت أثرها في وجهه ومناطق أخرى من جسده.
ولدت جريدة «السفير» بتمويل ليبي كنتاج لمشاريع التوجه القومي الذي عَنوَن عشرية السبعينيات في ليبيا، وبداية تدشين دور ليبي في هذه المنطقة المحورية من الشرق الأوسط، وجاءت الخطوة الليبية ضمن مشاريع إعلامية مماثلة، بعضها لم ينج من عمليات النصب، والآخر غلب عليه التسطيح، وتغليب مبدأ إرضاء الممول أولاً، لكن ظل مشروع «السفير» هو المشروع الإعلامي الأنجح والأهم من بين هذه المشاريع بفضل شخصية مؤسسها ورئيس تحريرها الذي تمكن بمهنية عالية لا تخلو من الحسابات السياسية أن يوازن بين هوية الجريدة وخطها المهني، وسياستها التحريرية مع العلاقة بالممول، حتى أنها تخلصت بذكاء من هيمنة واحتواء الممول، وأخذت طابع الاستقلالية.
وكان لا بُد لهذه العلاقة الجدلية أن تنتهي، وقد انتهت واستقل طلال سلمان بـ«السفير»، وهنا لا بد من ذكر عاملين ساعدا في حسم هذه العلاقة: الأول ارتبط بقضية الإمام موسى الصدر، حيث وجد طلال سلمان نفسه، وهو ابن الطائفة الشيعية، في عديد المواقف الحرجة عند التعامل مع الخطاب الليبي بشأن هذه القضية، مما اضطره في أحد هذه المواقف إلى رفض نشر بيان ليبي حاد بالخصوص، لحساسية الحالة، وعلاقاته الوثيقة بقيادات الطائفة، وزد عليهما وجود قيادات تحرير في الجريدة تنتمي إلى الطائفة الشيعية.
أما الموقف الثاني فهو انقلاب العقيد معمر القذافي على خطه القومي الذي ظل متبنياً له على امتداد نحو ثلاثة عقود، ليعلن إدارة ظهره للعرب، والتوجه نحو نحو القارة الأفريقية، منادياً بالاتحاد الأفريقي بعد أن فشل سعيه مع العرب في تأسيس «الاتحاد العربي». وانسجاماً مع تكوينه القومي، لم يتقبل طلال سلمان هذا التغيُّر، وعبر عن اختلافه مع هذا التوجه بمقالات أوضح فيها موقفه من خطوة العقيد.
جمعني أكثر من لقاء بالراحل طلال سلمان عندما كنت مراسلاً صحفياً في دمشق، وخلال زيارتي مقر «السفير» ببيروت، ومرة التقينا في چنيف خلال انعقاد إحدى جولات الحوار الوطني اللبناني، وفي كل مرة كان احترامي يزداد لهذه الشخصية الصحفية التي انغمست في الحالة السياسية، حتى قادتها إلى قلب المعترك السياسي، لتأخذ مكانها تحت قبة البرلمان اللبناني كإحدى الواجهات الوطنية التي يحفل بها تاريخ لبنان السياسي.
في العام 1985، كان لـ«السفير» فضل عليّ، حيث زرت مقر الجريدة، والتقيت الصحفي الصديق فيصل سلمان، شقيق رئيس التحرير الصديق طلال سلمان، وكنت بصدد إعداد موضوع يتعلق بالمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وسألت السيد فيصل عما إذا كانت هناك خطورة في تنقلي بمناطق الجنوب، فاقترح أن أحمل معي بطاقة صحفية من دار السفير، وكان ذلك، وأنجزت مهمتي، حاملاً في جيبي بطاقة صحفي بجريدة «السفير». أما آخر زيارة لي للجريدة فقد كانت في أكتوبر من العام 1986، حيث التقيت الصديق فيصل سلمان، وكان إلى جانب عمله الصحفي يتولى إدارة مركز المعلومات التابع للجريدة.
لكن متابعتي لـ«السفير» عبر الشبكة العنكبوتية لم تتوقف، حيث أتابع عبرها تطورات الحالة اللبنانية، والافتتاحيات التي تبرع في اقتناص محتواها ومفرداتها، وقد تجلى ذلك في عديد المناسبات والأحداث الكبيرة حتى الانطفاءة الأولى التي نعى فيها سلمان «صوت من لا صوت له» برحيل النسخة الورقية للجريدة، ثم الانطفاءة الأخرى، والأخيرة، برحيل مؤسسها ورئيس تحريرها، الصحفي اللبناني العروبي، طلال سلمان.
موقع بوابة الوسط