نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 4 شباط 2009
صار المشهد مستفزاً ومهيناً لكرامة الإنسان العربي، فضلاً عن عقله، لكثرة ما تكرر واستعيد حتى بات جزءاً من «فولكلور الكوارث» العربية: كلما شنت إسرائيل حرباً جديدة على الفلسطينيين في أرضهم، أو على لبنان على امتداد سنوات احتلالها لبعض جنوبه، ثم في حربها عليه سنة 2006، جاء رد الفعل العربي الرسمي من خارج السياسة، وأبعد ما يكون عن المواجهة أو الاستعداد للمواجهة ولو بعد حين..
وكيف ذلك، يا طويل العمر؟!
لنستذكر كيف ردت القيادات العربية الرسمية المبجّلة، ملكية وأميرية وجمهورية، على الحروب الإسرائيلية في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ثم الثانية، وبعدها في لبنان، ثم أخيراً وليس آخراً في اجتياح التدمير والإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة الذي لما تتوقف تداعياته بعد.
كان القادة العرب يسابقون فيسبقون رعاياهم إلى نجدة «الضحايا» من الأشقاء، ومساعدتهم على «مواجهة المحنة الجديدة» بالإعلان عن افتتاح التبرعات بمبالغ محترمة ثم ينشئون هيئات أو يكلفون هيئات الإغاثة القائمة بما فيها الهلال الأحمر والصليب الأحمر (المحلي والدولي) والجمعيات الخيرية جميعاً للمسارعة إلى إغاثة ذوي القربى، كل حسب استطاعته.
وكل شيء أمام الكاميرا، يا طويل العمر!
يتفرج الرعايا على حملات النجدة الملكية أو الرئاسية وهي تبذل الغالي والرخيص من أجل تخفيف البلاء الإسرائيلي ومعالجة الكوارث التي خلقها: يكدسون صناديق الأدوية وحليب الأطفال وزجاجات المياه والبطانيات والثياب، قديمة أو حتى جديدة..
أكثر من ذلك: قد ترسل بعض الدول، وباسم جيوشها العاطلة عن العمل والمدّخرة إلى يوم الحساب (الذي لا يجيء)، مستشفيات ميدانية مع طواقم من الأطباء والممرضين، لتعالج الإخوة المحروقين بالنابالم أو بالقنابل الفوسفورية، من الأطفال والنساء والرجال، أو الجرحى ممن فقدوا عيونهم أو بعض أطرافهم…
وقد تهزّ النخوة صاحب جلالة أو صاحب سيادة أو صاحب سمو، (ممن لا صاحب لهم ولا صديق) فيأمر بنقل بعض الأطفال المقطّعة أوصالهم أو المطفأة عيونهم، لمعالجتهم على «حسابه الخاص»، (كأنما ثمة حساب عام!!).
لكأنما تحولت الجيوش إلى طواقم إسعاف بعد أن باتت عاطلة عن العمل، بعدما شطبت احتمالات مواجهة «العدو»، إما لأن هذا «العدو المبين» قد كفّ عنا شره بالصلح المذل، وإما لأننا سلّمنا بعجزنا عن مواجهته من الآن وإلى دهر الداهرين، فلماذا الجيوش… خصوصاً أن قوات الحليف الأميركي العظيم تملأ البر والبحر والجو، ولها قواعد في مختلف الجهات!
… ثم إن إسرائيل لم تعد «عدواً». بمعنى أنها قد احتلت مرتبة عليا جداً، بحيث لا يطالها رصاصنا ولا يقوى فرساننا على مواجهتها (فخيلنا كلها للسباقات الدولية)، فلماذا إذاً إضاعة الجهد والمال والدم في معارك عبثية، محسومة نتائجها سلفاً… ولا عليك من انتصارات المقاومة، ومن الهزيمة الإسرائيلية في حرب تموز 2006، أو من عجز جيش الدفاع الإسرائيلي الجبار عن إنهاء المقاومة في غزة هاشم بالمحرقة التي أشرك فيها أسلحته كافة، وبكل طاقة التدمير والنسف والإحراق وقد طاولت حتى الأنفاق؟!
أخطر ما في حملات التبرع والنخوة والنجدة والشهامة الملكية والرئاسية هذه أنها تنفي عن العدو صفته الأصلية كعدو وطني وقومي وإنساني، وتجعل من عدوانه «كارثة طبيعية» كالزلزال أو الفيضان. وبالتالي فلا تترتب على مرتكبيها السفاحين أية مسؤولية، إذ يغدو «العدو» الإسرائيلي، تحديداً، قدراً لا راد له.
ثم إن مثل هذه النخوة التي تمسخ «العدو» إلى كارثة طبيعية، وتنفي عنه مسؤوليته عبر التسليم بقدره، تمسخ في الوقت نفسه عن «ضحاياه» صفة الشعب صاحب القضية، وعن «المجاهدين» شرف مقاومتهم المجيدة، وبهذا يسهل على الفضائيات والصحف الناطقة بلسان ملكي أن تجعلهم مجرد «ضحايا» قضوا مصادفة في «حوادث سير»، أو في «اضطرابات»… هذا إذا هي لم تجعلهم المسؤولين عن الكارثة والمتسببين في قتل الأطفال وتدمير البيوت والدمار الهائل والشامل!!
… قبل أن تعقد اللقاءات والمؤتمرات الممهّدة للصلح بشروط العدو والتنصل من زمرة المغامرين والحمقى والمتآمرين على الأمن القومي…
يبقى سؤال ساذج، يا طويل العمر:
إذا كانت «دولنا» جمعيات خيرية وهيئات مدنية للإسعاف، وقوات أمن مركزي لمكافحة شغب الشعب، وتكايا للدعاء واستمطار اللعنات على «العدو»، أو خلايا لتسفيه المقاومة والتآمر عليها لدفعها إلى الاستسلام، فكيف لا تتوالى علينا الهزائم والنكبات، وكيف يمكن حفظ كرامة النصر المغسول بدماء المجاهدين؟!..
لك الله، يا غزة هاشم.. لك الله يا فلسطين.
مع التمني بألا يكون الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء والقادة المعظمون قد تنازلوا عنه، جلّ جلاله، للعدو الإسرائيلي، ليكون لهم عذر لا يمكن رفضه!